“عساكر قوس قزح”.. رثاء إندونيسي للكفاءات المهدورة

0 327
امتنان سلطان – مالانج

كان هذا عنوان إحدى المقالات التي كتبت عن واحدة من أفضل الروايات الإندونيسية التي نُشرت في بدايات الألفية الثالثة تحديداً عام ٢٠٠٥.

حينما قرأت عنوان هذه المقالة التي نشرتها قناة الجزيرة على صفحتها منذ أعوام، استرجعت مشاهد الفيلم الذي تَرجمت أحداث هذه الرواية على شاشات السينما والذي حمل نفس الاسم “عساكر قوس قزح”. وبلغ تأثير قصة هذه الرواية على القراء أن تُرجمت إلى ٢٨ لغة عالمية وبيع خمسة ملايين نسخة منها.

نُسجت هذه الرواية كعربون وفاء وامتنان لأسمى وظيفة على وجه الأرض، وهو المعلم، هذا المسمى الوظيفي الذي طالما كتب عنه الشعراء تمجيداً وعرفاناً بمكانة المعلم وأصالة مهمته، والتي قورنت بمكانة الرسول وسموِّ رسالته، فأمير الشعراء أحمد شوقي خير من ترجم ذلك في أبيات قصيدته:

قُم للمُعلّم وفّه التبجيلا                        كاد المعلم أن يكون رسولاً

أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي             يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا

هذا الاحترام الذي بات يخبو وهجه عبر الأجيال المتعاقبة، ولم يعد الجيل الحالي يدرك سموَّ مكانة المعلم كما كانوا في القرون السابقة – “جيل الطيبين” كما يقولون. فجاءت هذه الرواية كناقوس يذكر جيل “ألفا” بشيء أصيل كادت معالم التطور السريع وتقدم التكنولوجيا أن تطمسه.

فكانت هذه الرواية باختصار تحكي رحلة الشقاء لمجموعة من التلاميذ في إحدى جزر إندونيسيا النائية، وكفاحهم اليومي لاجتياز الطرق الوعرة – من بينها بحيرة التماسيح الخطرة – وأجواء الطقس الصارمة، لمجرد الوصول إلى مدرستهم الوحيدة. هذا الكفاح الأصيل من أجل طلب العلم والتقدير الغير مشروط لجهود المعلم يجهله الكثيرون ممن تعودوا رفاهية مقاعد السيارات وأجواء التكييف المركزي وغُرف الفصول الدراسية المجهزة بأدوات التعليم المتقدمة.

ففي القصة يضطر المعلم العجوز السيد (هرفان) – الذي أفنى عمره في مقاعد التدريس دون مقابل، أن يبيع الخضر ليشتري لتلاميذه مستلزمات المدرسة، وتفعل معلمة شابة الأمر ذاته، السيدة (ميس)، بأن تخيط وتبيع ما تخيطه لأنها تُعلم بالمجان.

ما الدافع وراء هذا التفاني اللامتناهي؟! نعم، فقط لأنهما امتهنا التدريس حباً وشغفاً لمهنة التعليم، وتوصيلا لرسالة سامية من أجل تنشئة أجيال قادرة على حمل الأمانة التي عجز عنها بقية المخلوقات ألا وهو إعمار الأرض!

فعلى الرغم من انتشار بعض قضايا العنف التي رفعها الطلاب ضد معلميهم في الآونة الأخيرة، آخرها قضية المعلمة سوبرياني التي سُجنت بسبب مقاضاة الطالب المدعي عليها، فطلاب هذا الجيل ووعيهم الزائد بحقوقهم، جعل البعض منهم يتطاول على معلمه باسم الحقوق والواجبات، بل ويرفع قضايا على معلمه متقمصاً فيها دور الضحية في حال استيائه من معلمه ولو لأسباب تافهة. ويتمادى البعض الآخر لأخذ حقه من معلمه بيده عوضاً عن القانون، بل ويعامل مدرسه وكأنه عامل يتقاضى أجراً منه. وينسى بذلك أي معنى لـ “احترام” أو “تقدير” المعلم. كلها تصرفات يندى لها الجبين.

وعلى الرغم من وجود القانون رقم 14 لعام 2005 بشأن المعلمين والمحاضرين، التي تنظم بموجبه حماية مهنة التدريس، إلا أن حوادث مثل سوبرياني لا تزال تتكرر. وبعبارة أخرى، فإن هذه اللوائح ليست فعالة. ولذلك، هناك حاجة إلى لوائح أقوى وأكثر صرامة بحيث لا يمكن تجريم تصرفات المعلمين أثناء تعليم الطلاب أو تأديبهم.  إنما يمكنهم رفع دعوى قضائية أو اعتراض إلى مجلس الأخلاقيات المهنية لرابطة المعلمين بإندونيسيا PGRI.

ويأتي الـ ٢٥ من شهر نوفمبر هذا العام كذكرى الثلاثين لتأسيس رابطة المعلمين بإندونيسيا، وذكرى ليوم المعلم الوطني، فيسعى طلاب المدارس لتكريم أساتذتهم ومعلميهم في مثل هذا اليوم من كل عام، وتنتشر على مواقع التواصل مقاطع التكريم كل بطريقته المبتكرة وأحيانا المفاجئة، لتنهمر دموع التقدير في أجواء مفعمة بالاحترام والامتنان.

ناهيك من أن مهنة التدريس تعتبر ضمن المهن الأقل راتباً في إندونيسيا، وهي لا تتناسب مع حجم العبء الملقى على عاتق المعلم.

إلا أن مدارس إندونيسيا اليوم لا تخلوا من هؤلاء الأبطال المجهولين، ومن الأساتذة المستعدين للتضحية في سبيل رسالة التعليم، ولو كان راتبهم أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور، فالتعليم قبل كل شيء رسالة وليست مهنة، وما زالت الدنيا بخير كما يقال..

إلا أن تقدير المعلم واحترامه لا يمكن أن يختزل في يوم واحد، كالـ٢٥ من نوفمبر، وعلى المدارس بل على أولياء الأمور المساهمة لإعادة ترسيخ مفهوم التقدير والاحترام للمعلم، وزيادة توعية الطلاب بمفهوم رسالة التعليم وسموه، وتفعيل مقولة “الأدب قبل العلم”.

وبالعودة إلى رواية “عساكر قوس قزح”، يأمل الإندونيسي أندريا هيراتا مؤلف الرواية أن تكون روايته قصة لأولئك المنسيون، للجندي المجهول، التي لم تسلط عليه الأضواء تكريماً لتضحياته، أن تكون صوتاً لمن لا صوت لهم، أراد أن يكون هو ذلك الضوء وذلك الصوت.

لم ينس هيراتا الذي أفلح في الحصول على منحة دراسية إلى أوروبا، أن يفي بوعده بتكريم معلمته رغم انقضاء السنوات، فنسج هذه الرواية المليئة بذكريات طفولته البريئة الجميلة رغم قسوة الظروف ومرارة الأيام، ذاكراً فضل نجاحه إلى معلمته ومدرسته التي تعلم بين جدرانها العتيقة ليس فقط الأبجدية بل دروساً ثمينة في الحياة.

يذكر أن أسلوب الكاتب بسيط جدا، بل وجد الكثير من الركاكة في أجزاء الرواية، فهو في الحقيقة لم يكن كاتباً محترفاً، ولا يجيد أساليب البلاغة في الوصف وحبكة السرد، لكن يكفي أنه نقل لنا أجمل تجربة واقعية بأبسط الأساليب بل وأصدقها. فلم يحاول أن يُزين أو يجمل أو يتعمق في الوصف، وكأن هدفه الأسمى أن يقدم كتابه هدية لمعلمته، بل هدية لكل معلم مخلص متفان في توصيل رسالته في سبيل العلم. وكما جاءت كلماته نابعة من قلب صادق، مخلص وغيور على كوادر التعليم، لاقت بذلك استحسان القراء ودخلت قلوبهم بكل سلاسة ويسر.

ويمكن أن يقال بأن هذه الرواية باختصار كانت تمجيداً للعلم، وللمعلم، فقد أعادت لمهنة التدريس ألقها وأصالتها، وأعادت للمدرس المخلص احترامه وتقديره. وفي ذكرى الـ٢٥ من نوفمبر ليوم المعلم، نأمل ألا يضيع وهج المعلم وتألقه وسط سرعة التقدم التكنولوجي الذي تشهده الأجيال، وأن نتذكر دائما ونذكر الأجيال الناشئة معاً، بأن مكانة المعلم ووجوده الجوهري في حياة الطالب يبقى كما هو ولا يمكن استبدال دور المعلم المحوري في العملية التعليمية والتربوية بأية تقنية حديثة كانت.

 

تعليقات
Loading...