indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

عند الحوض… لقاء من ضوء الطريق

0 217

 

في طريق العودة، ككل يوم، طلبنا السيارة عبر تطبيق الخدمة الإلكترونية، ولم نكن نعلم أن تلك الرحلة القصيرة ستتجاوز كونها مشوارًا عابرًا لتغدو حكاية تسكن الذاكرة.

كانت المصادفة أن يقود السيارة رجلٌ ضخمُ البنية، ذو شعرٍ طويلٍ مصبوغٍ بالأشقر، معقودٍ إلى الخلف، وعلى يديه أساور شبابية. كان الوقت ليلًا، والظلام يزيد من وحشة الطريق. وكعادتها، شعرت والدتي بشيء من التوجس، فالمظاهر كثيرًا ما تُلقي بظلالها على أحكامنا الأولى.

لكن الزحام الشديد كسر صمت المسافة، فبدأنا الحديث مع السائق كمن يقطع الملل ويؤنس الطريق. أشرتُ مازحة إلى أننا لم نكن نعلم بوجود هذا الزحام المفاجئ على غير العادة، لكنه ابتسم موضحًا أن السبب حفريات جديدة على جانب الطريق.

عندها تحدّثت والدتي عن صبر الشعب الإندونيسي، وكيف يندر أن تسمع ضجيج الأبواق في الطرقات رغم الازدحام، على خلاف بعض الشعوب التي تظن أن “البوق” قد يفتح الطريق أو يرفع البلاء. ضحك السائق وقال:“من يؤمن أن ما كُتب له سيأتيه، لا داعي للعجلة، فكل شيء بقدر الله.”

ومن هنا بدأ الرجل يسترسل في الحديث، يبوح بما في نفسه من مشاعر الذنب والتقصير في العبادة، ليس لتقصيرٍ في الأداء، بل لأنه لا يجد في صلاته تلك اللذة والسكينة التي وصفها النبي ﷺ حين قال لبلال: «أرحنا بها يا بلال». قال إنه يؤدي الصلاة كواجبٍ لا كراحةٍ للروح، ويتمنى أن يبلغ يومًا تلك الدرجة من الشوق والخشوع.

لم أتمالك نفسي من الابتسام، ونظرت إلى أمي نظرةً فيها من الدعابة ما فيها من العتاب، كأن لساني يقول: يا أمي، ما أكثر ما يخبئ البشر من جمالٍ خلف المظاهر التي تخدعنا.

حينها ابتسمت أمي بحنان وقالت له: “يا بُني، إن الله يحب النفس اللوّامة، يحب عبده الذي يراجع نفسه ويسعى للاستزادة، لا ذاك الذي يغتر بعبادته أو بمقامه. فالشعور بالتقصير هو علامة حياة القلب، وهو بداية القرب من الله، لا بعدٌ عنه.”

ثم تابعت قائلة:

“يا بُني، ليس المهم أن تكون في المسجد طوال الوقت، المهم أن تكون في طاعة الله حيثما كنت.”

“أتدري؟ كان هناك رجل من الصحابة لزم المسجد لا يغادره، فلما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: من يعولك؟ قال: أخي. فقال له عمر: أخوك أعبدُ منك! لأن الرزق لا ينزل من السماء ما لم يسعَ له الإنسان.”

علق قائلا: “متى يأتي اليوم الذي أشعر فيه بالاكتفاء المادي لي ولعائلتي حتى أتفرغ للعبادة..”

أجابت والدتي: “العمل أيضًا عبادة، والسعي في طلب الرزق الحلال لإعالة الأهل مأجور عليه. فقد قال النبي ﷺ: «إن لبدنك عليك حقًا»،

وذكرته بمقولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».” فالعمل بهذه المقولة يحقق التوازن الفعلي لحياة الإنسان على هذه الأرض.

أطرق السائق الشاب برأسه متأملًا، ثم قال بصوتٍ خافتٍ تهدّج بالعاطفة:

“أحبُّ الرسول حبًا لا أستطيع وصفه، وأتوقُ أن أراه عند الحوض يوم القيامة، ولهذا سميت ابنتي باسم ابنته الطاهرة… فاطمة.”

وبينما كنا نقترب من المنزل، أخطأ في اللفة وتجاوز الطريق المؤدي إلى بيتنا. اعتذر، ثم ابتسم قائلاً: “ربما كتب الله لي أن أطيل الحديث معكما قليلاً.”

ضحكنا جميعًا، وودعناه بامتنانٍ صادق. قالت له أمي: “لعلنا نلتقي مجددًا.”

فأجاب بعينين تلمعان بدموعٍ صافية: “إن شاء الله… عند حوض النبي ﷺ.”

توارى الطريق في سواد الليل، لكن أرواحنا كانت تسير في ضوءٍ آخر، ضوءٍ يذكّر أن بعض اللقاءات ليست على الأرض فحسب، بل تمهيدٌ لوعدٍ خالدٍ… عند الحوض.

امتنان سلطان | إندونيسيا اليوم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.