يوميات الرحلة الإندونيسية (٣)
ويل للرجال من حياء الفاتنات !
هل بدأت أكبر في السن؟ أو قد كبرت فعلا؟ أو أن السؤال نفسه تحايل وتهرب؟
كنت أنام في السابق خلال لحظات من وضع رأسي على المخدة أيا ما كنت ؛ أما الآن فلا .. كلما جاهدت لأن أنام في غير بيتي وعلى غير سريري لم أفلح . أظل أتقلب على السرير ذات اليمين وذات الشمال ولا يأتيني النوم أحوج ما أكون إليه ، وأشد ما ألح في الطلب عليه ؛ حتى أسأم وأملل وأضجر ، فأقوم من سريري لأنشغل عن محاولاتي مراودة النوم بأي شيء ..
هذا حالي ؛ ربما لأني بدأت أكتهل ؛ فما لهذا النشيط الثرثار إسماعيل – الذي لا يكف عن الكلام والحركة لحظة – لا يُسلم جسمه للسرير وعينيه للكرى؟
يغادر الغرفة إلى بهو الفندق ليجلس ويتحادث هناك مع من يساهر الليل مثله . وإذ غادر هو ونام سيف فماذا أنا فاعل؟ من لي بأحد يساهرني غير القرطاس والقلم؟
أول ليلة في إندونيسيا
وجلست أكتب يوميتي في النور الخافت حتى انتهيت ولمّا أحس بسِنة في عيني ، ونزلت ألتحق بإسماعيل ولكن لا أثر له . أين هو؟ أبحث عنه في أنحاء البهو هنا وهناك ولا أثر .. أخرج إلى الشارع .. نسمات باردة وادعة ورذاذ سماوي ودود يضفيان على الشارع النائم أجواء ليلية حالمة !
ما الذي في حياة الليل بإندونيسيا وإن في الليل لحياة كالتي في النهار أو أشد؟ ما الذي تخفيه عنا يا ليل إندونيسيا؟ ما الذي تخفينه عنا من أسرارك يا إندونيسيا وإنها لأول ليلة لنا في حضنك الدافئ الحميم؟ لماذا تحلو الحياة في ليالي المدن كما تحلو في نهارات القرى والأرياف؟ أين أنت يا إسماعيل يا ترى؟
– ماذا؟ أنت هنا يا إبراهيم؟ كنت أبحث عنك؟
– بل أنا من يبحث عنك ، وجلست هنا في الرواق أنتظرك !
كثيرا ما يكون شخصان قريبين جدا في الحياة ، فيبحثان عن بعضهما ولا يلتقيان ، ويظلان يشقيان . وكثيرا ما يكون شخصان بعيدين جدا في الحياة فيلتقيان بإذن ربهما ويسعدان . لماذا يلتقي البعيدان أحيانا ولا يتقابل القريبان؟
روح إندونيسيا الحقيقية
حين استيقظنا ضحى الجمعة كان أول شيء فعلناه في الغرفة أن قام أحدنا بفتح النافذة نطل منها على “ميدان” التي رأيناها في الأصيل وكنا نمني أنفسنا برؤيتها في الصباح الباكر .. يتهادى إلينا من الجامع القريب تلاوة خاشعة ساجدة ! نستمع إليها وننصت لها بنفوس شجية .. يعلق أحدنا :
– هذه تلاوة فيها روح !
أهتز للكلمة من الداخل .. أتخيل وجه القارئ وهو يتلو بانتشاء وتلذذ وعلى ملامحه أمارات الخضوع .. كأن روحه تحلق في فضاءات القرآن الطليقة ، أو تسبح عميقا في بحره الزاخر !
قلت في نفسي : مثل هذه التلاوات الشجية هي روح إندونيسيا الحقيقية التي صمدت طويلا وحافظت على إسلامها في مواجهة الاستعمار الغربي المباشر لها طيلة قرون ثلاثة بل تزيد !
أربع لغات لا تكفي في الفنادق !
هل يمكن العيش في هذا العالم المتفرنج بغير القدرة على التعامل باللغة الإنجليزية؟ رفعت سماعة الهاتف في الغرفة لأبادل تحية الصباح مع موظفة الاستقبال بما بقي لدي من المخزون الإنجليزي القديم .. قلت عبارتين وقالت الموظفة مثلهما ثم سكت حيران لا أنطق بشيء كمن أصابه العِي فجأة .. أردت أن أخبرها أننا نطلب مغادرة الفندق ولكن المخزون لا يسعف ، وتمت المغادرة في النهاية على كل حال بإشارات وإيماءات صوتية لا حركية !
أتقن لغتين لا تتقنهما الموظفة : العربية والروهنجية ، وتتقن هي لغتين لا أتقنهما : الإنجليزية والإندونيسية ؛ فانظر إلى هذه اللغات الأربع تقف عاجزة بيننا عن الوصول إلى بعضنا ، لنفهم عن بعضنا !
***
صلينا الجمعة في أجواء مغيمة في جامع ليس ببعيد عن مكان الفندق .. يبتدئ الخطيب خطبته بالمقدمة المعهودة ويثنيها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالحث على التقوى ، ثم قرأ شيئا من القرآن ، ثم تحول مباشرة إلى اللغة الإندونيسية يخطب بها .. لا نفقه من خطبته شيئا ، حتى إذا أوشك على الانتهاء منها ختمها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالدعوات المعهودة في آخر الخطبة . وإذا هي خطبة صحيحة مكتملة الأركان والشروط كما ذكرها الفقهاء ؛ ولكن الخطيب يكتفي بتسليمة جهرية واحدة ويسرّ بالثانية حين فرغ من صلاته ، ويرفع صوته بأذكار ما بعد الصلوات كأنما يلقنها لمن خلفه من المصلين دون أن يتحول إليهم ويباشرهم بوجهه كما هو المشروع في السنة .
حياء الفاتنات إذا خجلن !
عقب الجمعة زرنا مكتبا سياحيا ناجحا هو (المختار) ، يقدم خدمات الحج والعمرة للعملاء .. واجهة فخمة .. لوحة دعائية كبيرة .. ديكور متميز .. تصاميم رائعة .. لمسات فنية مبدعة .. هوية بصرية كاملة .. عروض وامتيازات متعددة .. استقبال وترحيب حار .. احتفاء إندونيسي معهود بكل ناطق عربي ..
فور دخولنا مقر المكتب صادفنا أمامنا زهرات فاتنات محتشمات يحاولن أن يغالبن حياءهن ولكن الحياء الطاهر الشريف يغلبهن كما نرى ، وويل للرجال المفتونين من حياء الفاتنات المحتشمات إذا خجلن وتوارين !
شبعنا نحن وجاع الطنطاوي !
أهدينا جميع من في المكتب أعواد المسواك التي جلبناها من مكة ، وقدمنا لهم بعض ما معنا من الفواكه ، وبادلونا إهداء بإهداء ، وقدموا لنا ضيافة إندونيسية كريمة ، وتطوعت إحدى موظفات المكتب ترتب لنا سفرة الغداء بمودة أنثوية صامتة ..
ورقة كبيرة من شجر الموز تطوى على هيئة كيس يحوي داخله حصة كل منا من وجبة الغداء المكونة من الأرز وأصناف متعددة مختلفة من الأطباق القريبة في مكوناتها وطريقة طبخها من الأطباق الروهنجية المعتادة ..
أما نحن فقد تناولناها جميعا بلا تردد واستسغناها بسهولة ، وأما الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله فقد مكث شهرا في إندونيسيا قبل ٦٤ عاما لا يستسيغ شيئا من مطعوماتهم حتى كاد يهلك لولا ما يمسك به رمقه ويبقيه على قيد الحياة كما ذكر ذلك في كتابه عن رحلته إلى إندونيسيا ..
بقينا في المكتب نصف يوم نتعرف إلى من فيه وما يعملون وكيف يعملون ، ونأنس بهم ونأنس إليهم حتى يدخل علينا فجأة رفيقنا الرابع في رحلتنا : أبو فارس !
من هو يا ترى؟ من أين أتى؟ ولماذا تأخر عنا كل هذا الوقت؟