إندونيسيا تواجه الصمت الدولي: متى يحين الأوان لمحاسبة إسرائيل؟

0 400

عبدالله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

في لحظة تتعاظم فيها التوترات السياسية الدولية وتتزايد فيها المطالبات العالمية بمحاسبة الدول التي تتجاوز حقوق الإنسان، ألقت إندونيسيا بثقلها وراء دعوة صريحة لمحاسبة إسرائيل على ما ترتكبه من انتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، إذ جاء خطاب نائب وزير خارجية إندونيسيا محمد أنيس ماتا، خطابًا قويًا في القمة العربية الإسلامية الاستثنائية بالرياض في 11 نوفمبر 2024، تحدث فيه بلغة عربية سليمة عن محاور رئيسية، شملت رفض التطبيع مع إسرائيل والمطالبة بطردها من الأمم المتحدة، إلى جانب بناء تحالف عالمي من “الجنوب العالمي” ومقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال.

وتمثل كلمات محمد أنيس الذي تم تعيينه مؤخرا ضمن حكومة الرئيس الاندونيسي الجديد برابوو سوبيانتو، دعوة إلى تحرك عالمي ضد ازدواجية المعايير التي تحكم العلاقات الدولية اليوم، مؤكدًا على أن العدالة والحقوق الإنسانية يجب أن تكون أساس أي موقف دولي.

إندونيسيا وموقفها من التطبيع: تساؤلات حول مفهوم السلام

في تناوله لقضية التطبيع، سلط محمد أنيس الضوء على ما يراه تضليلاً كبيرًا، إذ يتم تصوير التطبيع كخطوة نحو السلام، بينما يمنح شرعية لاحتلال يستمر في انتهاك حقوق الفلسطينيين، مشيرا إلى أن إندونيسيا التي ناضلت طويلاً ضد الاستعمار، لا يمكنها تقبل هذه التسويات، موضحًا أن التطبيع مع إسرائيل ليس إلا تكريسًا “لاستعمار جديد”.

عبر هذا الموقف، تبرز إندونيسيا كشريك يدعو لتحالف عالمي يتبنى رؤية أخلاقية تتجاوز المصالح السياسية الضيقة. لذا يرى أنيس أن التطبيع يمثّل “موت الضمير العالمي”، إذ لا يقدم حلًا حقيقيًا، بل يساهم في شرعنة الانتهاكات. هذه العبارة التي استخدمها محمد أنيس توضح فلسفته الرافضة لفكرة “السلام الزائف”، مؤكدًا أن القضية الفلسطينية لا يمكن تسويتها إلا بعودة الحقوق إلى أصحابها وإنهاء الاحتلال، لا بتبريره.

المطالبة بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة: رسالة لمراجعة الشرعية الدولية

وفي دعوةٍ غير مسبوقة، طالب محمد أنيس بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة، مشيرًا إلى ازدواجية المعايير التي تسمح لدولة بمثل هذا السجل من الانتهاكات أن تحتفظ بمقعدها في المنظمة. ووفقًا لأنيس، فإن هذا الوجود الدولي يمنح إسرائيل شرعية غير مستحقة، متسائلًا عما إذا كان بقاء إسرائيل في الأمم المتحدة يشكّل “مباركة صامتة” لسياسات الاحتلال.

هذا الطرح لا يمثل مجرد دعوة لمحاسبة إسرائيل، بل يدعو المجتمع الدولي لإعادة تقييم مبادئه والتزامه بحقوق الإنسان، كما أن هذا الموقف النقدي يسلط الضوء على فشل المنظمات الدولية في التمسك بقيمها الأساسية.

إن مطالبة محمد أنيس بطرد إسرائيل تعكس رغبة في أن تتبنى الدول الإسلامية والعربية موقفًا صريحًا يفرض قواعد جديدة للمحاسبة، ويوجه رسالة بأن المجتمع الدولي مطالب بمراجعة مواقفه أمام الشعوب التي تمثلها الأمم المتحدة.

تحالف الجنوب العالمي: توحيد قوى المستضعفين لدعم فلسطين

لم يكتف محمد أنيس بمخاطبة الدول العربية والإسلامية فحسب، بل دعا لتأسيس تحالف “الجنوب العالمي”، وهو مفهوم يجمع بين دول آسيا، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية التي تشترك في تاريخ من النضال ضد الاستعمار.

يرى أنيس أن تحالفًا من هذه الدول، التي طالما عانت من الاستغلال وغياب العدالة، يمكن أن يصبح قوة ضاغطة فعالة تدعم الحقوق الفلسطينية وتواجه الاحتلال، لذا يعتقد أن مثل هذا التحالف يمكن أن يعيد التوازن في النظام الدولي الحالي.

هذا التحالف ليس مجرد فكرة سياسية، بل هو استحضار لقيم التحرر والعدالة التي طالما كانت حلمًا للشعوب المستضعفة. وبهذا الطرح، يحاول أنيس تجاوز المقاربات الدبلوماسية التقليدية ويدعو إلى تعاون أوسع بين الدول التي تشترك في القيم الأساسية ذاتها، مما يعكس رؤية شاملة تتجاوز الحدود الجغرافية، وتُحول قضية فلسطين إلى رمز عالمي للعدالة.

مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل: مقاومة اقتصادية تدعم التضامن السياسي

قدم محمد أنيس أيضًا دعوة صريحة لمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، مشددًا على أن المقاطعة الاقتصادية تمثل سلاحًا فعّالًا لدعم الموقف السياسي في مواجهة إسرائيل.  واعتبر أن المشاركة الاقتصادية مع هذه الشركات تُعد تمويلًا غير مباشر للاحتلال، وبيّن أهمية المقاطعة باعتبارها أسلوبًا “للمقاومة السلمية” التي تضغط على إسرائيل في العمق الاقتصادي.

تأتي هذه الدعوة استنادًا إلى رؤية أنيس التي تتجاوز الحدود السياسية لتشمل الجانب الاقتصادي، حيث يرى أن المقاطعة الاقتصادية هي شكل من أشكال النضال الذي يعزز المواقف الداعمة لفلسطين.  ويعكس هذا الطرح وعيًا عميقًا بدور الاقتصاد في تشكيل السياسات، حيث أن الضغط على الشركات المتعاونة مع إسرائيل هو وسيلة للتأكيد على أن العالم الإسلامي لن يدعم الاحتلال بأي شكل من الأشكال.

بلاغة الخطاب وقوة اللغة

جاء خطاب محمد أنيس بلغة عربية سليمة، تعكس تمكنه من استخدام الكلمات كأداة للتأثير، حيث لجأ إلى استعارات وتعبيرات بلاغية ترسم صورة معبرة، مثل وصفه مايشهده العالم من المجازر البشعة والإبادة الجماعية بأنه “موت الضمائر الإنسانية”، وقوله أمام صمود وإباء الشعب الفلسطيني “لا معنى لحريتنا واستقلالنا إن لم تكن فلسطين حرة مستقلة فهي عندنا أمانة دستورية وفريضة الإسلامية وضرورة إنسانية”. هذا الأسلوب البلاغي ساعد على تجسيد رسائل الخطاب بوضوح، مما جعلها أكثر تأثيراً ووقعاً على الحاضرين.

لقد ساعدت خلفية محمد أنيس الأكاديمية، إذ درس العلوم الإسلامية والعربية في معهد العلوم الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في بناء لغته القوية ومكنته من إيصال رسائله بأسلوب يجمع بين العمق والبساطة. لقد نجح في استخدام اللغة العربية ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل كأداة تعبيرية تحرك الشعور وتستنهض الإرادة.

إعادة رسم التحالفات وتوجيه خطاب العدالة

يعتبر خطاب محمد أنيس دعوة جريئة لمواجهة ازدواجية المعايير وإعادة رسم التحالفات الدولية بما يعزز موقف العالم الإسلامي تجاه القضية الفلسطينية. ومن خلال رفضه للتطبيع، ودعوته لطرد إسرائيل من الأمم المتحدة، وتأسيس تحالف من الجنوب العالمي، يطرح أنيس رؤية فلسفية تتجاوز السياسة التقليدية، وتحث على تبني خطوات عملية لدعم الحق الفلسطيني.

في نهاية المطاف، تشكل كلمات أنيس رسالة واضحة للعالم بأن العدالة ليست مجرد شعار، بل هي مبدأ أساسي يجب أن يبني عليه النظام الدولي سياساته. وعلى الرغم من محدودية دور إندونيسيا بحكم إمكانياتها السياسية وبعدها الجغرافي، إلا أن رسالتها تظل قوية في التأكيد على أن حقوق الشعوب هي جوهر الاستقرار والسلام الحقيقي.

يبرز خطاب محمد أنيس كدعوة جريئة للضمير العالمي، حيث تؤكد إندونيسيا من خلال هذا الخطاب أن العدالة هي القوة الدافعة وراء سياستها، وأن الدعم للقضية الفلسطينية لا يعتمد فقط على القرب الجغرافي أو القدرات السياسية، بل على التزام أخلاقي عميق يجعل من هذه القضية رمزاً للنضال من أجل الإنسانية.

ومن خلال هذا الموقف، تفتح إندونيسيا الباب أمام الدول الإسلامية والعربية لتبني مواقف جادة وفعالة تسهم في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، وتعزز مصداقية النظام الدولي في وجه ازدواجية المعايير.

تعليقات
Loading...