بين مطرقة الرقمنة وسندان الوعي: تحديات وسائل التواصل الاجتماعي في إندونيسيا
عبدالله بوقس
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
في قلب الأرخبيل الإندونيسي، حيث تتقاطع العادات التقليدية مع نبض الحداثة، تبرز قضية وسائل التواصل الاجتماعي كأحد أكثر التحديات تعقيدًا للأجيال الصاعدة. فقرار أستراليا مؤخرًا بحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عامًا يلقي بظلاله على المناقشات في جاكرتا، حيث تدرس الحكومة إمكانية اتخاذ خطوة مشابهة، ولكن ليس من دون مواجهة تحديات سياسية، اجتماعية، واقتصادية تُميز الوضع الإندونيسي.
التحدي الثقافي والاجتماعي في إندونيسيا
تشير دراسة I-NAMHS إلى أن 34.9% من المراهقين الإندونيسيين عانوا من مشاكل نفسية، بما في ذلك القلق الذي يمثل المشكلة الأكثر انتشارًا. هذه الإحصائية، التي تعادل حوالي 15.5 مليون شاب، تُسلط الضوء على أزمة صامتة تعصف بالمجتمع. ومع ذلك، فإن النظام الحالي يقدم استجابة محدودة، حيث أن 2.6% فقط من هؤلاء المراهقين حصلوا على دعم نفسي. ما يعمق الفجوة هو نقص الموارد الموجهة لمعالجة القضايا النفسية، مما يترك المراهقين في مواجهة التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي مثل التنمر الإلكتروني والمحتوى غير المناسب.
تعد إندونيسيا واحدة من أكثر الدول نشاطًا على الإنترنت في العالم، حيث يزداد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بوتيرة متسارعة بين الشباب. وفي مجتمع متعدد الثقافات والأديان، تُعقد قضية فرض القيود على وسائل التواصل الاجتماعي بفعل التباينات الاجتماعية والثقافية. فمن جهة، يُمثل الإنترنت مساحة للتعبير عن الهوية الثقافية وتبادل الأفكار، ومن جهة أخرى، يُثير انتشار المحتوى السلبي قلقًا حول تأثيره على القيم الاجتماعية.
على عكس أستراليا، فإن السياق الاقتصادي لإندونيسيا يجعل من فرض حظر شامل على وسائل التواصل الاجتماعي خطوة محفوفة بالمخاطر. تعتمد العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العصب الاقتصادي للدولة، على منصات التواصل الاجتماعي للتسويق والتجارة الإلكترونية. وبالتالي، فإن أي قيود شديدة قد تؤدي إلى تأثير سلبي على الاقتصاد الرقمي المتنامي.
ومع ذلك، تُظهر تجارب دولية مثل أستراليا أن تقييد وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال يمكن أن يتم دون الإضرار الكامل بالاقتصاد، من خلال تطبيق قوانين مستهدفة بدلاً من فرض حظر شامل. وبهذا، يمكن لإندونيسيا الاستفادة من تلك التجارب لتطوير إطار عمل يُوازن بين حماية الصحة النفسية للشباب وتعزيز النمو الاقتصادي.
على المستوى السياسي، يُظهر تأخر تطبيق مثل هذا الحظر في إندونيسيا، كما أشار عمران بمبودي، مدير الصحة النفسية، إدراكًا لضرورة بناء توافق جماعي حول هذه القضية. هذا التأخير يعكس تحديًا في تحقيق التوازن بين المصالح السياسية والضغوط الشعبية. كما أنه يُظهر دور الأهل، حيث يتحملون حاليًا مسؤولية مراقبة استخدام الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي، مما يعيد طرح سؤال عن دور الدولة في تنظيم الفضاء الرقمي.
رؤية نحو المستقبل
بينما تسير إندونيسيا بحذر على خطى أستراليا، يبقى الحل الأمثل هو استثمار الدولة في تعزيز الوعي الرقمي، مع بناء نظام دعم نفسي شامل. يمكن للحكومة الإندونيسية الاستفادة من التقدم التكنولوجي لتطوير تطبيقات تراقب استخدام الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي وتحذر من المخاطر المحتملة.
كما قال الفيلسوف الإغريقي أرسطو: “الفضيلة هي التوازن بين الإفراط والتفريط”، يمكن لإندونيسيا أن تستلهم هذه الفكرة لتحقيق التوازن بين الحرية الرقمية والمسؤولية المجتمعية، مما يُمكنها من بناء أجيال واعية قادرة على التعامل مع تعقيدات العصر الرقمي دون التضحية بالقيم النفسية والاجتماعية. وبهذا النهج المتوازن، يمكن لإندونيسيا أن تحول التحديات إلى فرص لتقدم مستدام.
في ظل تسارع التحولات الرقمية، تواجه إندونيسيا خيارًا مصيريًا: تحقيق التوازن بين حماية أجيالها الناشئة وتعزيز الابتكار الاقتصادي. وعبر تبنّي سياسات مستدامة ومتكاملة، يمكنها قيادة نموذج يُعزز الصحة النفسية والوعي الرقمي، لتصبح قدوة في بناء مجتمعات متوازنة تواكب العصر دون التضحية بقيمها وهويتها.