indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

جاكرتا وأنقرة.. اقتصاد السوق والسلاح

0 264

عبد الله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

في عالم السياسة، حيث لا مكان للعواطف المجردة ولا مجال للأحلام دون حسابات، تتشابك المصالح كما تتداخل أمواج المحيط الهندي مع البحر الأبيض المتوسط، في رقصة مستمرة لا تتوقف عن التحول.

حين استقبل الإندونيسي برابوو سوبيانتو نظيره التركي رجب طيب أردوغان الزائر في قصر (بوقور) الرئاسي، خلال زيارة الأخيرة الرسمية من 11 إلى 12 فبراير 2025، لم يكن المشهد احتفالياً بقدر ما كان استراتيجياً، حيث تكشف التحالفات نفسها في مرايا المصالح المتبادلة.

من الاقتصاد إلى الدفاع، ومن السياحة إلى التعليم، سُطّرت ملامح شراكة تمتد من شرق آسيا إلى أطراف البوسفور، فيما يراقب العالم مسار هذا التحالف الناشئ بين القوتين الإسلاميتين.

من البناء إلى الدفاع: طريق المليارات نحو نوسانتارا

لم يكن إعلان أردوغان التزام تركيا بالمشاركة في مشروع العاصمة الإندونيسية الجديدة “نوسانتارا” مجرد بادرة دبلوماسية، بل خطوة مدروسة تضع الشركات التركية، ذات الباع الطويل في الإنشاءات، على خارطة المستقبل الإندونيسي.

نوسانتارا، المشروع الذي يُقدر أن يكلف 32 مليار دولار، ليس مجرد انتقال إداري، بل هو تحول سياسي واقتصادي يعكس طموحات إندونيسيا في إعادة تشكيل هويتها على الساحة العالمية.

تركيا، التي تمتلك شركات عملاقة في مجال البناء مثل “ليماك” و”رينيسانس”، تدرك أن الدخول في هذا المشروع يعني توسيع نفوذها الاقتصادي في أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان.

لكن، كما أن البناء ركيزة من ركائز المستقبل، فإن الدفاع هو حارسه، إذ شهدت القمة أيضًا توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء مصنع مشترك للطائرات المسيّرة بين شركة “بايكار” التركية وشركة “ريبوبليكورب” الإندونيسية، مما يمهّد الطريق لنقل التكنولوجيا وتعزيز قدرات جاكرتا في التصنيع العسكري.

بموجب الاتفاقية، ستقوم تركيا بتصدير 60 طائرة مسيّرة من طراز “بيرقدار تي بي 3” و9 طائرات من طراز “بيرقدار أقينجي” إلى إندونيسيا. وتتميز “بيرقدار تي بي 3”، التي طورتها شركة “بايكار”، بقدرتها على الإقلاع والهبوط من السفن ذات المدارج القصيرة، مما يجعلها مثالية للمهام البحرية. كما تمتلك قدرات متقدمة في الاستطلاع والمراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية، إلى جانب قدرتها على حمل ذخائر وأسلحة ذكية، ما يعزز من إمكاناتها في العمليات العسكرية والدفاعية المختلفة.

بالنسبة لإندونيسيا، فإن تعزيز التعاون مع تركيا في مجال الطائرات المسيّرة قد يحقق لها ميزة استراتيجية، حيث يمكن لهذه الطائرات توفير قدرات استطلاعية متقدمة، وتحسين الأمن البحري، ودعم عمليات مكافحة الإرهاب والتهديدات غير التقليدية. كما أن التكنولوجيا التركية في هذا المجال قد تسهم في نقل الخبرات وتعزيز التصنيع المحلي، مما يدعم تطوير الصناعات الدفاعية الإندونيسية.

اللافت أن هذه الصفقة تأتي بعد شراء جاكرتا 12 طائرة مسيّرة تركية في عام 2023 بقيمة 300 مليون دولار، مما يرسّخ تعاوناً دفاعياً متصاعداً بين البلدين.

في عالم تتحكم فيه الطائرات دون طيار بساحات المعارك، لا يبدو هذا التعاون منفصلاً عن تطورات السياسة الإقليمية، حيث تتحسب الدول لكل الاحتمالات، وتعدّ السلاح قبل أن تحتاجه.

الاقتصاد والسياحة.. شراكة ما زالت تبحث عن توازن

بلغ حجم التجارة بين إندونيسيا وتركيا 2.4 مليار دولار عام 2024، وهو رقم متواضع مقارنة بحجم الاقتصادين. غير أن الطموحات تتجه نحو سقف أكثر ارتفاعاً، حيث أعلن الطرفان نيتهما رفع حجم التبادل التجاري إلى 10 مليارات دولار سنوياً. الاقتصاد هنا ليس مجرد أرقام، بل انعكاس لحسابات النفوذ، إذ تُدرك تركيا أن الوصول إلى الأسواق الآسيوية الكبرى يمر عبر إندونيسيا، فيما تسعى جاكرتا إلى الاستفادة من الصناعات الدفاعية التركية لتعزيز قدراتها الاستراتيجية.

السياحة أيضاً دخلت على خط المصالح المتبادلة، مع إعلان أردوغان أن 203 آلاف سائح إندونيسي زاروا تركيا العام الماضي، مقابل 50 ألف تركي زاروا إندونيسيا. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تحمل بعض الإيجابية، إلا أن الرئيس التركي اعتبرها “أقل من الإمكانات المتاحة”، مشيراً إلى ضرورة توسيع حركة الطيران بين البلدين لتسهيل تدفق السياح.

لا يبدو هذا مجرد حديث بروتوكولي، بل إدراك بأن السياحة أداة ناعمة للتقارب الثقافي والتأثير المتبادل، في وقت يبحث فيه الطرفان عن روابط تتجاوز الحسابات السياسية إلى التداخل الشعبي.

فلسطين.. الحاضر الغائب في كل لقاء

وفي مشهد لم يكن مفاجئاً، تصدرت القضية الفلسطينية حديث القمة، حيث أثنى أردوغان على “الموقف الإندونيسي الثابت” في دعم حقوق الفلسطينيين، مشيراً إلى أن إعادة إعمار غزة ستظل مسؤولية دولية، وأن إسرائيل يجب أن تتحمل كلفة الدمار الذي خلفته في القطاع.

هذه التصريحات ليست مجرد موقف مبدئي، بل انعكاس لاستراتيجية تركية وإندونيسية أوسع، حيث تسعى أنقرة إلى تكريس نفسها كمدافع شرس عن القضية الفلسطينية، فيما تريد جاكرتا أن تحافظ على مكانتها كإحدى أكثر الدول الإسلامية التزاماً بدعم حقوق الفلسطينيين.

لكن، رغم وحدة الخطاب السياسي، فإن واقع العلاقات مع القوى الكبرى يلقي بظلاله على الموقفين التركي والإندونيسي، حيث تحاول أنقرة الحفاظ على خطوط مفتوحة مع الغرب، فيما تبقى جاكرتا حذرة في خياراتها الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة.

هنا، تبرز فلسطين ليس فقط كموقف مبدئي، بل كأداة لتعزيز العلاقات الإقليمية وتحقيق مكاسب استراتيجية في العالم الإسلامي.

تحالف الضرورة أم شراكة استراتيجية؟

في عالم يتغير بسرعة الضوء، لا يمكن قياس التحالفات بمعيار اللحظة الراهنة، بل بالمدى الذي يمكن أن تستمر فيه. التعاون بين تركيا وإندونيسيا يبدو أنه يسير بخطى واثقة نحو شراكة استراتيجية، ولكن إلى أي مدى يمكن لهذا التحالف أن يصمد أمام تقلبات السياسة الدولية؟ هل ستظل المصالح الاقتصادية والدفاعية قادرة على تجاوز أي خلافات محتملة؟ أم أن هذا التقارب محكوم بسياق اللحظة، وسيتغير بتغير اللاعبين على مسرح السياسة الإندونيسية والتركية؟

الجواب ربما لن يأتي سريعاً، لكن المؤكد أن ما يجمع جاكرتا وأنقرة اليوم يتجاوز اللحظة العابرة، ليؤسس لمعادلة جديدة في السياسة الإقليمية، حيث لا يكون الصديق مجرد خيار، بل ضرورة يفرضها ميزان القوى المتحرك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.