جدول المحتويات
ربما لم يكن مصادفة أن أنشأ في حي يقطن فيه أغلب الطلاب الوافدين للأزهر في مدينتي ( المنصورة ) حيث كان فرع جامعة الأزهر و به كلية أصول الدين و كلية اللغة العربية إضافة إلى كلية الدراسات الإسلامية للبنات , فعشت فترة طفولتي وعيني تألف مشاهد الطلاب وأغلبهم من الطلاب الآسيويين يغدون ويروحون وقد اتخذوا من الحي الذي أعيش فيه مستقرًا ومكانا للسكن وبالذات ( الطلاب المتزوجين ) فمكان الكلية قريب والسكن نسبيا رخيص ..لكني لم أكن أدقق كثيرا فيما وراء مظاهر هؤلاء الطلاب الذي كان يتصف أكثرهم بأدب جم وابتسامات رقيقة لطيفة يوزعونها على من يقابلهم في الطريق و في المتاجر وفي المسجد .
تعارف مشوش
أغلب المصريين ومعهم العرب لا يميزون جيدًا هويات الآسيويين وعندهم أن كل آسيوي غالبًا فهو صيني , ولو تحسن حاله قليلا مع الثقافة ربما أطلق على الأندونيسيين و الماليزيين و التايلنديين وأهل فطاني جميعا لقب ( الماليزيين ) وبعضهم كان مع الوقت يعرف الأندونيسيين ولكن كيف يفرق بين هؤلاء ؟
وهل هم شيء واحد أم شيئين مختلفين ؟
وهل هم متفقون أم مختلفون أم متشابهون أم ماذا ؟
في الغالب كانت هذه الأسئلة لا تأخذ مجراها من الاسترسال ومحاولة الحصول على أجوبة شافية , لأنها لم تكن تهم كثيرا عامة من يتعامل مع هؤلاء الطلاب ربما لأنه لم يكن يحدث ما يستدعي التنبه لهذه الفروقات في الأساس , وقد كنت أنا واحدا من هؤلاء ..وإن كنت أتذكر أنني في بعض الأوقات أسأل نفسي فعلا عن هذه الفروقات دون أن أجد سبيلا للإجابة عليها
ولما لم أجد حاجة ملحة للحصول على الإجابات كنت أنسى هذه الأسئلة ولكن شيئا منها بقي في داخلي حتى مضت الأيام وحدث ما استدعى بعد ذلك أن تعود هذه الأسئلة إلى السطح مجددا مرة أخرى ولكن بشكل جديد.
أول الطريق
كنت طالبا في كلية اللغة العربية – في غير جامعة الأزهر- ولكني كنت أحاول الاستفادة من شيوخ و أساتذة الجامعة عن طريق الذهاب إلى دروسهم ومجالسهم التي كانت تعقد للراغبين في التعلم والاستفادة , فكنت ألقى هؤلاء الطلاب وكان يعجبني سمتهم وهدوءهم ( لأني كنت هادئا مثلهم أيضًا ) وبدأت أتعرف عليهم وأحفظ أسماءهم و أعرف الدول والبلدان التي جاءوا منها ..هذا من أندونيسيا وهذا من تايلند وهذا من تايلند ولكن من منطقة فطاني – ما الفارق إذا ؟ وطبعا لاحقا عرفت – وهذا من بروناي وهذا من سنغافورة ..كنت التقط أخبارا و متفرقات عن هؤلاء بدافع من الفضول وبدافع من الود المتبادل فقد كان بعض هؤلاء بعد توثيق التعارف والألفة يحب أن يسأل عن بعض ما لا يعرف في شئون المصريين وبعض الأمور التي لا يفهمونها على وجهها الصحيح , وكانت أسئلة مغلفة بكثير من التحفظ ولكنها كانت تنتج شيئا من المفارقات الطريفة التي كنا نضحك لها من فرط مبالغات بعضهم في التحفظ ..وهو في الغالب ليس من طريقة المصريين والعرب ولا من طبيعتهم في التواصل والعلاقات , ومع هذا كانت هذه المحادثات سبيلا لي في التعرف على عالم آخر في أقاصي جنوب شرق الدنيا لم أكن أعلم عنه شيئا يذكر.. وفتح عيني على أشياء لم ألق لها بالا من قبل .. ولكن مع الأسف لم تدم هذه اللحظات طويلا فقد صدر قرار بنقل دراسة الطلاب الوافدين جميعا للقاهرة في عام 2012م ولم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الصلات فشعرت ببعض الخسارة ولكني بقيت بقدر ما أستطيع محافظًا على هذه الصلات كلما ذهبت إلى القاهرة أو كلما كان هناك مجلس علمي أو مناسبة احتفالية دينية وقد كان في هذا شيء من العزاء.
مرة أخرى بشكل مختلف
بعد هذا الوقت بأعوام قليلة – في حدود عام 2018م – أتيح لي أن أعمل في مؤسسة ترعى الطلاب الوافدين علميا وتربويا وثقافيا وعدت مجددا إلى منطقة العلاقات الاجتماعية والعلمية التي شكلت جزءا من ثقافتي في أول سنوات شبابي لكنني في هذه المرة دخلت عالمًا أوسع و أرحب من ذي قبل ..فها هنا طلاب من كل مكان من بلاد المسلمين ..من الهند وبنغلادش وروسيا و سريلانكا و نيجيريا و تركيا وأمريكا وجنوب أفريقيا والمغرب و تونس وفرنسا , ووجدت نفسي في رحلة جديدة مع التعرف على شخصيات وأفكار و وأحوال لبلدان ذات ثقافات مختلفة عن ثقافتنا كشرقيين عرب ,وقد حاولت أن أستغل الفرصة بقدر ما أستطيع..فقد كان عندي مكتبة لا بأس بها تحوي من بين ما تحوي عددًا غير قليل من الكتب والمراجع عن بلاد المسلمين وشعوبهم تاريخًا وثقافة وغير ذلك..نعم كان عندي شيء من المعلومات والمعارف المتفرقة عن هذه البلاد وتلك , ولكن كان التعارف المباشر والحوار الحي يكشف لي مع الوقت أن كثيرا من هذه المعلومات إما أنه قديم او أنه يقدم صورة غير كاملة عما كنت أظن نفسي فاهما له وخبيرا به ..كنت مع الوقت أتعرف على السمات العامة المشتركة بين الآسيويين مثلا وبين الروس من شرق وسط آسيا وبين الروس في روسيا نفسها أو في داغستان , و بين الأفارقة في غرب القارة وفي شرقها , مع وجود سمات داخلية وتقسيمات في كل مجال جغرافي وإقليمي فأهل الملايو يتشابهون غالبا وإن كانوا يختلفون في بعض الأمور وأهل غرب أفريقيا كذلك مع اختلاف قبائلهم وأهل منطقة وسط آسيا تجمعهم قبائل وتفرقهم دول وتجمعهم دول وتفرقهم قبائل ..هكذا !
وعرفت مع الوقت أن العالم أوسع كثيرا مما يتخيل المرء منا وفي نفس الوقت وجدت أن الناس أقرب إلى بعضهم بأكثر مما كنت أتصور أنا و يتخيل غيري
فأهل آسيا الجنوبيين غير أهلها الشماليين غير أهلها في الجنوب الشرقي غير أهلها في الشمال الشرقي و أهل أندونيسيا غير أهل ماليزيا غير أهل فطاني المسلمين ..بل وأهل جاوة أنفسهم فيهم الجاوي وفيهم السوندا وفيهم الحضرمي وفيهم غير ذلك ولكنهم مع كل هذه التصنيفات يتشابهون بقدر ما يختلفون .
لكن هذا حديث يطول كثيرًا ..فكيف رأيتُ أنا الأندونيسيين ؟
هذا الصمت ما وراءه ؟!
يتسم الأندونيسي غالبا بالتحفظ وقلة الكلام إلا فيما يجد أنه مضطر للتحدث فيه أو لا مناص من طلبه أو السؤال عنه أو الإجابة عليه..وبشكل عام فإن الأندونيسيين مثل غالب الآسيويين لا يتكلمون كثيرا ولا يبادرون الآخرين بحديث وإن كُلموا أجابوا بكلام مقتضب قليل للغاية .. ولا علاقة لهذا باختلاف الشخصيات وطباعها (انطوائي – انبساطي ) فهي ثقافة عامة متجذرة في نفوس أهل هذه البلاد ولكنها للأسف كثيرا ما يُساء فهمها من قبل المشرقيين العرب وفي القلب منهم المصريون..فهم شعب اجتماعي كثير الكلام و محب للإقبال على الغريب إلى حد يصل للفضول المضجر أحيانا مما قد يسبب نتائج معاكسة في بعض الأوقات, ولكن مع الوقت ومع كثرة المواقف تكتشف أن هذه الطباع ليست مواقف موجهة نحو أحد بقدر ماهي أساليب وأفكار للحياة أنتجتها البيئة التي عاش فيها هؤلاء ولا يمكن لمن نشأ عليها وكبرفي رحابها أن يغيرها أو يتخلص منها حتى وإن أراد , ويمكن التغلب على هذه المشكلات بالتفهم و التعارف وإرشاد الأساتذة والمعلمين للطلاب بأن يكونوا على إحاطة بثقافة أهل البلد والتعامل معها بشكل يساعدهم في رحلتهم
والطريف أنك تجد الأندونيسي قليل الكلام حتى مع أقرانه وأصدقاءه إلا في جلسات السمر و الاحتفالات وغيرها ..وحتى في هذه الأجواء تجد الواحد منهم يقتصر في الكلام مع من يربطه به رابط قوي او معرفة قديمة ويندر أن يقترب الأندونيسي من شخص مختلف عن جنسيته أو يتبسط في الحديث معه دون سبب وإن كان بعض الأندونيسيين لا يجد بأسا في ذلك وبعضهم يبادر بالتعرف على ثقافات الآخرين ويتجاوب جيدا مع دعوات الضيافة و الزيارة للأصدقاء في مدنهم وقراهم وقد تصل هذه المقاربات إلى درجات أبعد فتتوج بالنسب والزواج والشراكة في التجارة..لكن هذا قليل نادر والناد لا يقاس عليه كما يقول أهل الفقه والأصول
لكن هل هناك حل للكتمان والصمت عند الأندونيسيين؟
هذا سؤال كنت أجده كثيرا عند الأساتذة و المدرسين والعاملين في شئون الطلاب الوافدين وهو يعبر عن حيرة تجاه التناقض الذي يستشعره هؤلاء من أدب الطلاب الأندونيسيين وسمتهم الطيب الحسن و بين صمتهم وقلة تجاوبهم مع الآخرين مما يؤثر كثيرا على تفهم مواقفهم ويسىء تفسيرها في كثير من الأوقات.
وقد وجدت مع الوقت أن احترام هذه الثقافة وتفهمها مع الإرشاد الهادىء غير المزعج للشباب مع بعض المبادرات المشتركة والأنشطة المجمعة يساعد كثيرا في حل ما تصنعه هذه المفارقات وإن كنت أطمع ان يكون هناك دورات إرشادية للطلاب الوافدين من أندونيسيا – وغيرها – لتنبيههم إلى ثقافة الشعوب التي يسافرون إليها فهي تختصر عليهم الطريق كثيرا أو على الأقل تكسر من حدة هذه المفارقات وتجعلهم مستعدين نفسيا للتعامل مع الاختلافات وآثارها
أما أنا فقد وجدت طريقي مع السؤال و الاستفسار الدائم عن ثقافة هذاالشعب وجيرانه و السؤال عن تاريخهم وعن بعض الأمور التي كنت أتابعها في الأخبار فضلا عن المشاركة في بعض النشاطات والذهاب إلى المطاعم وتجربة الطعام الشعبي و المشاركة في حفلات تخرج الطلاب من الكليات ونشاطات التكريم فضلا عن الدورات العلمية .. فتكونت مع الوقت صلات طيبة بعيدة عن التصورات الذهنية المسبقة و سوء الظن و التسرع في الحكم وأظن أن الصبر والتأني كفيلان دائما بتوضيح ما لا يتضح في هذه العلاقات وإصلاح ما قد يفسد في لحظات الانبطاعات الأولى ..وإن كنت في بعض الأحيان أخفق في بعض المواقف نتيجة اكتشاف مالم أكن أعرفه أو أحيط به علما..لكن لا بأس , كان الأمر عندي أفضل بكثير من غيري.
ثقافة وتعجب وطعام وأشياء أخرى
من أبرز مظاهر الثقافة الأندونيسية احترام الكبار و الأساتذة و المعلمين ولا يقتصر هذا على أصحاب السن الكبير أو الفوارق العمرية الملحوظة بل تجده بين الطالب في السنة الأولى وبين طالب السنة الأخيرة في الكلية في طريقة المصافحة و في أسلوب النداء وفي التوسعة في المجالس او التقديم للغرباء ..وهذا الأمر وإن كان عاما في أهل منطقة الملايو و في شرق آسيا , إلا أنه عند الأندونيسيين أبرز وأوضح من غيرهم ..و على ذكر هذا فقد اكتشفت – ويا للغرابة – أن الأندونيسي من بين هذه الشعوب أكثرهم انفتاحا على الآخرين و أكثرهم قابلية للإندماج في المجتمعات التي يرتحلون إليها وهم على تحفظهم وقلة كلامهم كما أسلفت جماعيون من الدرجة الأولى و عمليون من الطراز الرفيع, ورغم أنني كمثال وجدت في القاهرة عدة مطاعم تايلندية ومطاعم هندية ومطاعم أوزبكية ومطاعم ماليزية ومطاعم أفريقية إلا أنها كلها لا تقارن من حيث الكم ولا العدد ولا طبيعة الاستخدام بالمطاعم الأندونيسية , فهذه المطاعم ليست فقط للطعام , بل تستخدم أحيانا لنشاطات التعارف والاجتماعات و المناسبات و جلسات الاتحادات واستقبال الضيوف وتكريم الأساتذة وهذه المطاعم أيضًا ليست كلها على طراز واحد وإن كان أكثرها ذو طبيعة آسيوية تقليدية من حيث الجلوس على الأرض و الأكل من على طاولة منخفضة – وإن كنت أحيانا أجد مشقة في الجلوس على أرضية غير مغطاة في أيام الشتاء الباردة – بل هي أشكال وألوان وبعض هذه المطاعم يقدم الطعام على مناضد وكراسي مرتفعة ..وبعضها يكون مرتفع المكان في مبنى عال وبعضه يطل على الشارع مثل السوبر ماركت وبعضها يكون في مكان داخلي وغير ذلك ..أما الطعام فهو نفس الطعام الشعبي الأندونيسي وإن كان بعض المطاعم أحيانا يقدم وجبات قريبة نوعا ما من الطعام العربي – وربما هذا – بتأثير الثقافة الحضرمية لكنه قليل جدا وقد كنت أجد هذا الطعام الشعبي جيدا ولا بأس به , وبعض هذه الوجبات كنت مع الوقت أشتهيه مثل البأسو والرز المقلي بالدجاج والسمك المقلي و الدجاج المقلي ورغم أن اللحم ليس من الوجبات ذات الوجود كثيرا على المائدة الأندونيسية إلا أن (الريندانج) كمثال لم أجدني أحبه مثل باقي الوجبات بعكس اللحم العربي , وأتذكر و أنا اكتب هذا الكلام مبتسما الشيخ علي الطنطاوي الذي قضى في أندونيسيا شهرا ونصف لا يكاد يأكل شيئا لعدم تعوده على الطعام الأندونيسي ولعدم ايجاده أي طعام عربي !
و بصفة عامة فإن أغلب العرب والمصريين لا يستهويهم الطعام الأندونيسي والآسيوي عموما ..ليس فقط لأنه حار المذاق ويحتوي على توابل وبهارات في كل الوجبات تقريبا ولكن لأن عادات الطعام تكاد تختلف بشكل كلي عنها عند العرب سواءً في الطبخ أوالمذاق أوالنكهة أو طقس الطعام و الأكل نفسه ولم أجد كثيرا من العرب يقبل على الطعام الأندونيسي إما بدافع الصور الذهنية المقولبة عن الطعام الاسيوي و إما تكاسلا عن المغامرة إلا طبعا لو كان هذا الطعام هو الإندومي !
كنت معلما ولكن تعلمت منهم
من أكثر نقاط القوة عند الأندونيسيين هي التنظيم الشديد وهو أمر يكاد يكون ثقافة عامة عند هؤلاء الشباب وسمة لازمة لهم ..والحق أن المتأمل لطبيعتهم في الاجتماعات والفعاليات المختلفة يجد هذا الملمح عندهم متجليا ومتجسدا بشكل لافت للنظر مقارنة بغيرهم.
ورغم أنك حين توطد صلاتك بين الشباب وتبدأ في رصد وملاحظة هذه الاختلافات بين الجاوي والسومطري وبعض المشاكسات بين المادوري وبين السولاويسي أو المفارقات بين أهل آتشيه وأبناء كالمينتان.. وتعرف أن هذا البلد يكاد أن يكون قارة بمفرده في اتساعه و وتنوع ثقافاته وثراء تاريخه إلا أن الجميع في وقت العمل يندمج في كيان واحد يهمه أن يخرج العمل المقصود على أحسن صورة ولا أكون مجاملا حين أقول أنني عملت مع كافة الجنسيات الوافدة فلم أجد جنسية أكثر قابلية للتنظيم والتفاهم و المرونة النفسية واحترام النظام مع القدرة على الإبداع وابتكار الطريف وتقديم الحلول عند الأزمات المفاجئة من الأندونيسيين
ولا أبالغ حين أقول أنني تمنيت كثيرا لو تعلمنا كعرب وكمصريين من هذه الأمور ..وهذه الثقة في قدرات هؤلاء الشباب لم تكن حالة فردية عايشها كاتب هذه السطور بل وجدتها أيضًا عند مستويات عليا عند القائمين على الأزهر الشريف بداية من شيخه ومرورا بكثير من مديري العمل في مؤسساته ومنهم مستشاري الإمام للطلاب الوافدين , فكثيير من الأنشطة والفعاليات التي تقام للطلاب الوافدين يُسند تنظيمهما للاتحاد الأندونيسي والطريف أن هذا الأمر لا يكاد يقابل باعتراض من الجنسيات الأخرى لأنهم مع الوقت والتجارب قد لمسوا بأنفسهم أنه لا يمكن المجازفة بالتصدي لتجربة قد تفضي إلى مقارنات مع تنظيم الأندونيسيين لن تكون غالبا في صالحهم ..أما أنا فقد تعلمت من هذه الأمور كثيرا للأمانة وحاولت أن أرشد كثيرا من الجنسيات الأخرى أن يتعلموا من هؤلاء الشباب هذه الأمور , لكنها في جزء كبير منها ثقافة أكثر منها ممارسة فيما عايشت مع طول الوقت , أما الأمر الغريب – والجميل في نفس الوقت – الذي يتعلق بهذا الملمح ودائما ما أجدني أستحضره وأستشهد به فهو سهولة الحصول على أي معلومة عن أي طالب من شباب أندونيسيا في أي وقت مقارنة بغيرهم ..وفي حين لا يتطلب الأمر أكثر من معرفة المنطقة او الجزيرة التي ينتمي إليها أو الكلية التي يدرس فيها ومن ثم سؤال الاتحاد الذي يتبع له منطقة الطالب إلا أن هذا الأمر نفسه كان يستغرق أسابيع عدة عند باقي الجنسيات وربما في بعض الأحيان لا يأتي بأي نتيجة للأسف , هذا رغم أن عدد الأندونيسيين يكاد يصل إلى 15 ألف طالب وهو عدد أكبر بكثير من أي جنسية يدرس طلابها في مصر اللهم إلا طلاب ماليزيا وهم بدورهم يسكنون في أماكن معدة لهم سلفا بإنفاق الحكومة الماليزية ودعمها فلا يحتاج أحد ان يبحث عنهم فضلا عن أن يضل السبيل إليهم .
صعوبات وآمال
رغم أن تاريخ وفود الأندونيسيين إلى مصر وإلى الأزهر بالتحديد يكاد يتجاوز المائتي عام تقريبا ورغم العدد الكبير من الأندونيسيين الذين مروا على مصر خلال دراستهم إلا أن الصعوبات التي تكتنف حياتهم في مصر ما زالت كثيرة وفي بعض الأحيان قد تؤثر هذه المصاعب بالسلب على نمط حياتهم وتحقيقهم لأهدافهم التي جاءوا من أجلها ولأن موضوع المقال لا يناقش هذا الأمر بالتحديد فلن أناقش تفاصيله بقدر ما أشير مُعجبا إلى ثقافة التضامن والتعاون في حل المشكلات وايجاد الحلول التي كنت أراها في شباب أندونيسيا على رقة الحال وضعف الموارد قياسا -كمثال – بالدعم التي تقدمه ماليزيا أو سلطنة بروناي لطلابها وربما هذا يرجع إلى احترام الأندونيسيين لقيمة التعلم وحبهم له بكل أشكاله وتحملهم في سبيله لكثير من الصعوبات وصبرهم عليها – ولا يمنع هذا من أن فئات من الطلاب لا تهتم بهذه الأمور فمنهم من يكون ميسور الحال يقضي وقته بين المطاعم والرحلات ومنهم من يسير مستغرقا في حياة العمل و التجارة ويجعل الدراسة في سلم متأخر من اهتماماته , وكم كان يعجبني ان أرى مبادرات وأفكار عدة لحل مشكلات بعض الطلاب وأزمات بعض الطلاب الآخرين سواء المالية أو الإدارية أو المشكلات الأمنية التي تواجه البعض منهم فضلا عن عدم انتظارهم أو إتكالهم على السفارة والدولة بل وعدم رغبتهم في إقحامها بهذه المشكلات إلا فيما يستدعي ذلك بشكل ملح , أما المصاعب التي تواجه هؤلاء الشباب فهي غالبا متمثلة في عدم تغطية المنح لكل الطلاب وعدم قدرة الطلاب على الاستمرار بالدراسة دون عمل ومورد رزق يساعدهم على الاستمرار في الحياة بالغربة وقد لا يستطيع بعضهم الصمود مع هذا كله فيرجع عائدا إلى بلاده ومن الصعوبات أيضا اختلاف الثقافة الكبير بين المجتمع الأندونيسي وبين المجتمعات العربية وهو عامل يسبب بعض المضايقات للشباب الوافد حديثا كما أنه يؤثر بالسلب على الشباب صغير السن الذي ليس معه تجارب حياتية ولا خبرات يتعامل بها مع هذه المفارقات وقد رأيت بعض الاتحادات تقدم دورات تعريفية للطلاب الجدد فيها توجيه وإرشاد عن الثقافة المحلية وفي بعضها حتى تعليم لمصطلحات اللغة العامية والأماكن المشهورة وهذا جيد وحسن..وينبغي أن يكون هناك دورات سابقة على قدوم الطالب إلى مصر تشمل التعريف بالثقافة و التاريخ والشعب والأمور الاجتماعية والعادات والأعراف وغيرها دون تفصيل وبالقدر الذي يهم للحاجة..
ومن المهم أن يتنبه الطلاب إلى الفارق في قيمة المعادلات العلمية في الشهادات الدراسية قبل أن يتخذوا إجراءات السفر لأنني وجدت كثيرا منهم يصاب بخيبة أمل نتيجة وجود الفارق في تقدير الشهادات وعدم معادلتها في الأزهر فيأتي الطالب وهو يستعد لدخول الجامعة فيجد نفسه مضطرا لدخول المعهد الثانوي نتيجة عدم توفيق المعادلة او عدم التأكد منها ويضيع من عمره سنوات لم يكن يخطط لها..أيضًا أحب أن أشير إلى دور الفتاة الأندونيسية في مجتمع الوافدين حيث أن دورها مركزي ومهم ولا تكتمل صورة مجتمع الأندونيسيين ها هنا بغير وجودها ..و إن كان لمثلي أن يقترح شيئا فهو ان يكون هناك مؤسسات قائمة لتسكين ورعاية الطالبات بالتحديد وتقديم العون لهن وعدم الاعتماد على المنح المقدمة لهن من الأزهر ومن غيره فمهما يكن من رغبة الأزهر بالمساعدة فإن الإمكانيات لا تغطي كل هذا للأسف الشديد ( عدد الطلاب الوافدين يكاد يصل إلى 50 ألفا في مصر ) ولو تم اقتباس تجربة الحكومة الماليزية وحكومة سلطنة بورناي في إيجاد مساكن خاصة بهؤلاء الطالبات مع إيجاد ممولين وداعمين لبناءها.. فأنا أثق أن كثيرا من مشكلات الطلاب ها هنا بشكل عام سوف يتم حلها ..أما العائدين من مصر وغير مصر فأنا أرى والله أعلم أن يكون هناك منصة الكتروينة تشبه linked in ولكن يقتصر عملها لتغطي طلاب الأزهر والدارسين للعلوم الإسلامية في السعودية والمغرب وسوريا وتونس والبلاد الأخرى مع وضع معايير لتقييم السير الذاتية ومعايير التفضيل والترشيح للوظائف المعروضة في الحكومة والمعاهد العامة والأهلية ,وبالطبع توجد جهود للمنظمات العريقة كنهضة العلماء والمحمدية وغيرهما في هذا السبيل وهي جهود عظيمة مشكورة لكنها تحتاج إلى دعم و وتنظيم أكثر..وفي الختام هذه نظرات وتأملات من واقع تجربة معايشة لطلاب أندونيسيا بمصر والأزهر بعيدة عن الأحكام والتقييم المتسلط ولكنها مكتوبة بروح المحب الذي تعرف وعايش واستفاد واكتسب خبرات عدة من هذا الاقتراب.