سر أرقٌ من النسيم

القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة كتابة القصة القصيرة التي نظمتها إندونيسيا اليوم

الكاتب: أحمد متولي محمود السيد

نادت لي أمي وقالت لي لابد أن نرتب مكتبة جدك تمهيدًا لنقلها فالمكان قد ازدحم ولابد من أي مساحة يمكن توفيرها بقدر الإمكان ..قلت لنفسي : هل يجب هذا الآن ؟ و لولا الفضول لاعتذرت وتملّصت .. فهذه المكتبة ظلت لسنوات طويلة بعد وفاة جدي من الأسرار المقدسة التي كانت أمي حارسها الخالد، مانعة أي متطفل من التصوير أو الاقتراب!

جاء اليوم الموعود.. وفتحت أمي غرفة المكتبة وأنذرتني بضرورة الإنجاز وعدم التقاعس، وبدأت العمل وسط ركام الكتب والطبعات القديمة.. هذه طبعات نادرة لم أعد أرى مثلها كثيرا بل ولا قليلا.. أوراق صفراء.. أغلفة أكلتها الرطوبة.. كتب قليلة مجلدة تجليداً فخيما، وركن لا بأس به يضم المجلات القديمة ..
بدأت أقاوم النظر والتصفح  فيما أرتبه حتى لا يطول الوقت، وإن كنت أشرد مع بعض العناوين والأوراق والبطاقات التي تسقط من الكتب كل حين.. أنسى حرصي واستغرق في النظر لما تركه جدي.. و يبدو لي أنه أفنى عمره في جمعه والاعتناء به.. وفيم كنت في شرودي مريحًا ظهري بأحد زوايا الغرفة تناولت نسخة قديمة مجلدة من ديوان ابن الفارض جميلة الخط، لا تشبه كتابتها خطوط المطابع وإنما كتبت بما يشبه خط اليد كأنها مخطوطة.. أخذت أقلب في أوراقها، و راعني أنها متماسكة لم تهترئ مع تقادم الأيام، ولكن سقطت من بين ثناياها مفكرة صغيرة قليلة الصفحات لم أجد عليها اسمًا ولا بيانات ولكنها مكتوبة من أولها لآخرها بخط عرفت أنه خط الجد نظرًا لمطابقته لتعليقاته على بعض الكتب التي تصفحتها، ولما كنت أظنها تحوي بعض العناوين والأرقام والأشياء العامة، بدأت أطالع فيها فوجدت سطورًا أشبه بيوميات مختصرة.

(2)
لم أكن أظن أن ما أقرأه يعبر عن شخصية جدي الذي لا زال في ذهني مستقرًا بصورته القديمة منذ أعوام طوال: ساكنًا وقورًا قليل المزاح والتبسم مهاب الجانب من الكبير قبل الصغير..

ولكن.. هذه سطور عاشق متيم؛ فهمت من مضمونها أنه تعرف على فتاة عن طريق أحد المجلات القديمة.. كان أزهريًا له حس أدبي يقرض الشعر ويكتب عن أعلامه، وهي  تدرس في كلية مدنية تشاركه نفس الاهتمامات وإن كانت من مشرب مغاير..

كتب مقالًا عن شيء في تاريخ الأدب فعلقت عليه في بريد المجلة مصوّبة لما كتبه.. وكان تصويبها وجيهًا، ذهب إلى المجلة وحاول أن يعرف شيئا عنها لكن لم يجد.. ذات يوم وجد خطابا على عنوان بيته القديم وتوثق التعارف بعد لقاء في أحد مكتبات العاصمة..
بعد اللقاء الأول اتفقا على زيارة مقام ابن الفارض الشاعر الصوفي في سفح المقطم وقد كانا معجبين بشخصه وشعره.. وفي آخر وصف اللقاء مكتوب بالخط العريض بيت ابن الفارض:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا .. سر أرق من النسيم إذا سرى

ثم ماذا بعد ؟
انتهت الصفحات القليلة المبتسرة، ووجدتني أتحرك بهمة أكثر، لا لكي أنهي ما بدأت، ولكن بحثًا عن أية  أوراق أخرى.. أي خطابات.. مذكرات.. لكني لم أجد شيئا بعدما انتهيت  للأسف.

أصابني شيء من الألم الممزوج بالشوق لمعرفة باقي الحكاية.. ماذا حدث وكيف انتهى الأمر؟

سألت أمي: ماذا حدث في شأن جدي عن أمر كذا..، وحدثتها.. نظرت لي وقالت بوجه مهتم ومتعجب في آن واحد: كيف عرفت هذا؟ ما كان جدك يحدّث أحدًا بذلك قط، ولم يكن يجرؤ أحد أن يفاتحه في هذا الأمر .

قلت لها: ولا أنتِ تعرفين شيئا؟
قالت لي: لم يكن يستريح للكلام عن هذا لاسيما في حياة جدتك، لكن ذات مساء سمعت منه ما سأرويه لك الآن.. كانت مرة واحدة يتيمة في أواخر حياته في منتصف ليلة صيفية هادئة، وكان جدك راضي النفس حينها فوق العادة، فانتهزت الفرصة وسألته..

كانت فتاة ذات يسار من أسرة كبيرة وكان هو وقتها رقيق الحال، بالكاد ينفق من عمله على دراسته، وحين دخلت الأمور في حيّز الجد، آثر أن يعتذر للفتاة وتحرجت هي أن تتمسك به، فانقطع ما بينهما وإن ظل يذكرها آسفًا كل حين حتى مات.. ولم يذكر لأي منا تفصيلا للأمر، ولا أظن أحدًا آخر يعرف عن هذا شيئا إلا إشارات عابرة.

أرضاني نوعًا أن أظفر بتتمة للحكاية وإن كانت لا تشفي الغليل  ولا تُرضي الفضول.. لكن ما العمل؟
يجب أن يقنع المرء أحيانًا بما يجد إذ ليس ثمة خيار آخر.

بدأت أفكر في أن انطباعي عن جدي طوال هذه السنوات كان مبهما أكثر منه مغلوطًا، وكيف أصبح يحتاج إلى تأمل آخر مع نظرة جديدة.. قال لي صديق ذات مرة بعدما سمع قصتي: داخل كل إنسان تعرفه إنسان آخر لا تعرفه!
بعدها عرفت أنها مقولة للرافعي لكنها وقعت مني موقعًا حسنًا مع هذا..

(3)
بعد مدة خطر في بالي أن أزور مقام ابن الفارض حتى أستعيد مع وجداني شيئا من مسيرة جدي بعد أن رأيته في أحلامي أكثر من مرة وهو يحدثني مبتسما بلا كلام، قال لي في إحداها: لا تكن سريع الأحكام في الحياة ولا تتعجل في انتظار الإجابات.. ولم يكمل كلامه بعدها لكنه ربت على كتفي واختفى.

لا أدري كيف تبلورت هذه الفكرة في نفسي ولكني ذهبت إلى المسجد الذي به المقام  ووصلت بعد عناء، ووجدته لحسن الحظ مفتوحًا فتوضأت وصليت وتوجهت إلى المقام كما هي عادة مريدي هذه البقاع، وأجلت بنظري في جنبات المكان بحثًا عن أي شيء من أشعار ابن الفارض حيث قضيت أسابيع بعد يوم المكتبة أقرأ فيها متأملًا، لكني لم أجد شيئا.. فمضيت بعد وقت ما.

بعدها بأيام دعاني صديق لزيارة مكان ما قرب وسط المدينة، وفي الطريق رأينا شارعًا مليئاً بالبائعين للأشياء القديمة.. كان أغلبها أدوات، وأجهزة، و صورًا قديمة من أزمان غابرة، وتوقف صديقي عند بعض هؤلاء يبحث عن شيء، لم أنتبه له فسلّيت نفسي بالنظر في محتويات بائع بالقرب.. كان فيها عمود صغير من الكتب، تشبه تلك التي كانت في مكتبة جدي.. لما قلبت فيها وجدت بها ديوان ابن الفارض بنسخة قديمة، لكنها ليست مثل التي رأيتها في تلك المكتبة، وغالى البائع في سعرها جدًا فتركتها ومضيت، وحين انصرفت نادى علينا البائع وقلّل من السعر بمقدار النصف فاشتراه صديقي وهداني به.. ولا أدري لماذا بعدما وضعته جانبًا في البيت أيامًا، حدثتني نفسي ذات ليلة جافاني فيها النوم أن أقلب فيه، فوجدته مليئا بالعبارات و التعليقات ولكن قلبي اهتز شيئا ما و لمعت عيني حين وجدت دائرة كثيفة من الخط مرسومة حول بيت ابن الفارض:
سر أرق من النسيم إذا سرى
وحين عدت إلى الصفحة الأولى وجدت الاسم المكتوب لمالك النسخة يشبه أن يكون الاسم الذي ترقبته.. وقلت لنفسي أهو هو ؟
لم أجد شيئا يقطع بهذا الظن أو ينفيه، ومنيت نفسي أنه لا توجد في الكون مصادفات  تحدث بهذا القدر من التوفيق كثيرًا .. وحين نمت في تلك الليلة لم أر وجه جدي كما كنت آمل لأسأله ولكني رأيت ابن الفارض يقول لي: ومن المعارف ما يزيدك تحيرًا .. ثم ابتسم في رضا ومضى بعيدًا.

مسابقة إندونيسيا اليوم
تعليق (0)
اضافة التعليق