أين تذهب العصافير مساءً؟

أين تذهب العصافير مساءً؟

القصة الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة كتابة القصة القصيرة التي نظمتها إندونيسيا اليوم

 

الكاتبة: نورهان نشأت

يقولون إنه أول طفل منتحر بقريتنا، بل وربما بالقرى المجاورة أيضًا، وحين يتناقلون هذا الخبر يبتسمون عادةً فخرًا بسبقٍ لم يبذلوا مجهودًا لإحرازه، يقول عجوز في تقرير أعدته قناة ألمانية، إن الصغير قد سأله ذلك اليوم عن مصير من يذهب لمكان دون دعوة مسبقة، ولقد أجابه المدعو بردٍ قاطعٍ بأن من يفعل لن يجد من يرغب في لقائه، فمن يطرق بابًا في غير أوان الزيارة لن يُستقبل بالترحيب، لكن الصغير كان أكثر إصرارًا؛ فسأله معلنًا عن مدى إلحاح رغبته: -مهما كان طريقي إليه لم يكن سهلًا وميسرًا سألقى نفس المصير! مهما كنت جيدًا سأهلك إذا قررت الذهاب؟

فأجابه الرجل برد يُبرئ ذمته:- إياك… فستمحو قلة ذوقك في اختيار ميعادك هذا كل حسناتك.

يقول أبناء قريتنا الكثير، وجدّتُه تقول إنه حتى للرصيف ظنونه في تحولات الشارع، بينما محمد لم يقل شيئًا ليلتها، حتى إنه لم يبك طويلًا، فالبرد كان أشد من حزنه، والدموع كأنها تجمدت، ولم تذب إلا حين لمح أخاه، وكأن جمعهما الألم والجوع لحظتها، ربما سقط لتوه من السماء بعد ساعات من البكاء والدعاء، ذلك هو عمر! حتى إنه لا يزال مربوطًا بنفس الرباط الذي وثَّقته والدته حول قدمه، ذلك العصفور الجريح هو أخوه الذي حولته أمه بالأمس لعصفور!

ذابت الدموع حينها فقط، فرغم برودة الجو كانت تسقط على خده ساخنة كالماء المغلي، الفتى الذي كان يخشى العصافير ممسك أخاه الآن يُقبل منقاره! سمع محمد زقزقة أخيه، فاحتضنه بين كفيه، شعر أنه يرغب في إخباره بأمرٍ ما، وحينها كف عن البكاء، بل ظهرت ابتسامته حين لمح دموعه وهي ترتطم برأس أخيه وتبلل ريش رأسه الصغير، أخوه الأكبر قابع بين كفيه الآن، ودمعة واحدة كافية أن تبلله. مسح سيلان أنفه بكم بيجامته، وأخذ يبحث عن عصا سحرية حتى عثر على واحدةٍ كسرها من قفص خبز، مدّ يده بالعصا اتجاه العصفور الصغير الجريح المُلقى على الأرض وتلا تعويذة أمه عليه وهو مغمض العينين، كما جرت عادتها أثناء ممارستها لسحرها حين تحول أحدهم لعصفور أو ترغب في إعادته لآدمي:

يا رب السماء، أمنيتي فيك تنجلي

حول الطير بلمسة في لمح البصرِ

من جناجين إلى قدمين يخطو بخطوٍ

ليصبح إنسانًا، ويترك الفضاء للقدرِ

ثوانٍ وفتح عينيه مبتسمًا، وثوانٍ واختفت تلك الابتسامة، بل كان قد زمَّ شفتيه للأمام وصوته قد تحشرج وهو يتلوها للمرة الثانية، أما الثالثة كان يبكي بعدما تبدد أمله، بدأ عقله يتساءل: “لمَ لا تفعل العصا فعلتها معه؟” فأمه تفعل أفاعيلها بأي عصا، في ثوان حولت أخيه لعصفور بسيخ حديدي، وبثوان تأتي لجدّتهم بفردة جواربها المفقودة بعصا “المنفضة”، ألا يلدن الساحرات سحره أيضًا!

جلس محمد بجانب أخيه مستسلمًا، ولم يتوقف عن سؤاله عما يتذكره، فآخر ما كان يتذكره محمد هو أصوات العراك في الشارع بالخارج، وصوت عراك أمه وجدّته المعتاد بالداخل، حين حملته أمه بقبضة ذراعها وأمسكت بمعصم أخيه متجهة نحو باب الشقة، لكنها قبل أن تفتحه أعادت النظر فجأة لأمها، فهبت نحوها وأخذت تعانق قدمها وتُقبلها وترجوها أن ترحل معهم، حينها تسلل عمر نحو غرفتهم للاطلاع على مصدر الصراخ بالشارع من شرفتها، فور ما سمعت أمه صرير فتح باب الشرفة هبت نحوه وتبعها محمد، لقد أخبرتهما للتو ألا يتحركا من جانبها، فكان من المفترض أن يلقى عمر جزاءه، لكن الغريب أنها لم تصفعه حتى! ربما لملامحه التي بدت مذعورة حين التفت نحوها، خرجت للصالة تجرهما ثم ألقتهما بغضب بجانب أمها ودخلت المطبخ، ثوان وخرجت منه حاملة حبل الغسيل الأصفر، ربطت كاحل أقدامهم ببعضها سويًا، كانت الجدة مستسلمة تمامًا لربط قدمها بأقدامهم، وكأنها كانت تعلم جيدًا طقوس والدهم، حين كان يربط أقدامهم سويًا وهم على شاطئ البحر قبل الدخول والارتطام بأول موجة، كان أخوه عمر يتأفف كل مرة متحججًا بأن الحبل يجرح قدمه، لكن والدهم كان يكتفي بجملته المبهمة: ” إن البحر غدار، في ثانية سيأكلك”.

كان ينزعج عمر، فيرد وهو يجز على أسنانه: -وهذا الحبل الذي يربطون به الكلاب سيمنعه من أكلي!

لترد أمه نيابة عن أبيه: “-لا..لكنه سيمنعه من أن يلتهمك وحدك..إن أكلك سيأكلنا معك”.

كان محمد أثناء حوارهم هذا يتخيل البحر الشاسع كائنًا حيًا شريرًا له أسنان حادة، ومعدة ضخمة تسع أفراد أسرته، لكن فكرة أن أباه وأمه وأخاه سيكونون معه داخلها كانت تطمئنه، ولكنهم الآن ليسوا في البحر، كما أن والدهم لم يعد معهم! لقد حولته أمهم لعصفور.

أصوات العراك بالشارع لم تتوقف، والأدخنة قد أجبرت دموع محمد وأخيه على السيلان؛ بل ودموع جدتهم أيضًا، التي بدت مختلفة، فتتجمع ببطء وتسقط بحياء، تلك المرة الأولى التي يلمحون فيها ضعف هذه المرأة بل يكتشفون وجوده، حينها كانت تربط أمه قدمه بأقدامهم، فسألها محمد متلعثمًا كعادته قبل أن يجهش بالبكاء:

-هل ستقرأين علينا تعويذة يا أمي… ستحولينا لعصافير كما حولتِ أبي؟

لم تلحق أن تجيبه، فلا يتذكر سوى التراب الذي كان يضرب رؤوسهم وهو يحمل بين أحضانه لُعبته “السوبر مان” التي التقطها قبل أن تحمله أمه، لم يكن يرى سوى ذلك، ربما لأنه كان يبصر بثلث عينيه فقط بعدما غطت الأدخنة والأتربة الثلثين المتبقيين، فلم يرَ كيف انحلت جدتهم عنهم واختفت! أريكتها اختفت! بل صالة منزلهم كلها! كانت الأتربة تهطل بغزارة أثناء ما كانت أمهم تقفز بهم فوق أطلال ما بقي من سلم الدار، عندها انفلتت لعبته من بين أصابعه، فكان آخر شيء سمعه من عمر قبل تحوله لعصفور، وهو يترك الحبل يفلت من بين قبضته، ذلك الحبل الذي بدا أنه قد حله عن كاحله منذ دقائق وكان يدّعي ربطه بإمساك طرف الحبل حول قدمه بكف يده:

-لا تبكِ… سأصلحها.

دائمًا ما كان عمر يصلح أشياءً لم يفسدها، أين عمر؟ محمد وأمه فقط وبضعة جيران وسط الأدخنة والنيران المشتعلة على الجانبين، كانوا يحملون أطفالهم بين أحضانهم داخل أسوار المدرسة، الدموع اختلطت بالأتربة فتكونت طبقة من الطين على وجوههم، تمكن محمد بصعوبة من فتح عينيه حين سمع ذلك الصوت، كانوا بضعة زملاء لعمر! ولكن أين عمر؟ سأل محمد أمه عن عمر وحينها لمح الطرف الآخر من الحبل، كان خاويًا من أي قدم ومتدليًا على الأرض، فأجابته بصوت خانق متردد:

-حولته… حولته لعصفور.

تعجب محمد مما يُبكي أمه، فتلك مهارتها التي كلما فعلتها تكون مبتسمة! لقد ربطت والدهم بنفس الحبل قبل أن تحوله ولم تكن تبكي حينها! لم يلحق محمد أن يسألها، لا يعلم ماذا حدث، ومتى نام تلك النومة! كان هناك حمل ثقيل فوقه حين أفاق، الشمس كانت تضرب رأسه وتكاد تشعله وكأن أسوار الفصول بل والمدرسة كلها اختفت فوق ظهره، لقد كان الليل قد حل حين كانت تبكي أمه هنا، والآن الشمس تضرب جسده!

ظل ينادي على أمه حتى أصبح يصرخ عليها، وسط أصوات انفجارات لم تنطفئ، وأدخنة لم يستطع رؤية مصدرها، فقد كان هناك ثقل على رقبته يحول دون رفعها أو تحريكها حتى بأي اتجاه، حتى ظهر ذلك العجوز، لم يلمح محمد سوى يده النحيلة المكرمشة، الشرايين تنتفض منها وكأنها مفزوعة هي الأخرى مما يحدث، كان يزيح ببطء تام هذا الحطام من عليه حتى ظهر جسد الصبي، ولم يستطع النهوض رغم ذلك، فالحبل بقدمه بدا عالقًا بشيء أسفل الركام، حاول العجوز سحبه ولم يستطع، فأمسك بسن حجارة حمراء وأخذ يحكها بالحبل وهو يتهدج حتى انقطع. حينها، جرى العجوز بعيدًا حتى اختفى وكأن شيئًا ما كان يلاحقه، بينما محمد ظل يحاول النهوض لدقائق وهو يلتف برأسه باحثًا عنها، فكل ما كان يدور بخلده هو أمه التي تأكد أنها قرأت التعويذة على نفسها، لم ينجح في صلب طوله بقدمه المكسورة ويده المجروحة إلا بعد ساعات حينما سمع أصوات العصافير بالأعلى، نظر للسماء التي تغطيها سحب الدخان الرمادي وبكى، فلقد كانت تخفي السماء بين ظلمتها أهله عنه، أمه وعمر وجدته وأباه بالأعلى الآن، لقد ذهبوا وتركوه وحده، لِمَ لم تحوله أمه معهم كما فعلت مع أخيه! فإن كان ملعونًا كما كانت تخبره الجدة، فهو قادر دائمًا أن يكون مهذبًا أيضًا!

ظل يسير باتجاه الرجل الذي هرع  للتو، لكنه لم يجده، فلم يكن هناك شيء يدل أنه كان هناك بشر هنا! نظر للعتمة بالسماء وعقله يتساءل: “أين تذهب العصافير مساءً؟”، صوت تلك الزنانة يُخفي صوت زقزقتهم والسحابات السوداء تخفيهم، حينها كان قد وجد أخاه، كأنه سقط من السماء للتو، لمحه محمد وهو يبحث عن بشري بالشوارع، مجروح جناحه الأيمن؛ ساقطًا على الأرض بجانب غصن شجرة مكسور، ومثبت عليها عُش مُدمَّر، وقدمه الصغيرة لا تزال مربوطة بالخيط الذي وثقته أمه، قبّله محمد كثيرًا واحتضنه باكيًا.

تعويذة تلو الأخرى لكن دون فائدة، وفجأة، ربما حل السحر، ربما كان ذلك أثر تعويذة خاطئة! فسمع محمد صوت رفرفة جناحي أخيه، وحين لمحه، وجده يطير! ظل محمد يهرول قدر ما يستطيع بقدمه العرجاء خلفه، وبينما يستحلفه محمد بأن يُبطئ، كان قد غاب عمر عن نظره، ظل يهرول باكيًا، حتى سقط منهكًا فجأة على الأرض وهو ينظر للسماء وكأنها أتته بالدليل! فلقد ربطتهم أمهم بحبل أصفر، وهذا العصفور كان حول قدمه خيط أبيض! إذن، ليس هو، هذا العصفور ليس عمر! توقف عن البكاء حينها، وهو يعلم كل العلم أنه لا يزال وحيدًا، لكن على الأقل لم يتركه عمر وحده بعد كل تلك التوسلات، وفجأة تذكر أنه سيظل “وحده” فاشتد بكاؤه، وراح يسير في الشوارع باحثًا عن أحد من أهل مدينته يجيد السحر ليعيد إليه أهله، لكن، ربما أهل مدينته قد تحولوا أيضًا لعصافير!

لم يجد محمد أملًا في قدراته السحرية بأن تعيد له من فقدهم، لذا، قرر أن يذهب هو إليهم، صعد لسطح المبنى الوحيد الذي لم يُدمر في ذلك الشارع حيث وجد نفسه، ووقف على سوره، مد الصغير ذراعيه وأخذ يرفرفهما، ذهب محمد لأهله كما رغب، بينما لم يترك هذا العجوز الكاذب -الذي سبق وأخرجه من تحت ركام المدرسة- قناة تلفزيونية لم يخبرها بشأن الصغير ذي الثماني سنوات الذي انتحر منذ بداية الحرب. لكنه لم يفعل، أُقسمُ أن محمد زين الدين لم ينتحر، بل لقد كان يحاول الطيران، بعدما خذلته جميع التعاويذ، كان يحاول اختبار سحره. وبينما لا يتوقف هؤلاء الأغبياء من أهل مدينته عن السؤال عن حكم الترحم عليه من عدمه باعتباره من زاهقي الأرواح، فعقلي لا يتوقف عن التساؤل أبدًا: “أين تذهب العصافير مساءً؟”.

أين تذهب العصافير مساءًالمسابقةمسابقةمسابقة إندونيسيا اليوممقالات
تعليق (0)
اضافة التعليق