لحلقة السادسة من مذكرات: إندونيسيا بعيون أراكانية

0 661

مذكرات ويوميات يروي فيها كاتبها مشاهداته في إندونيسيا حول مشاركة الوفد الروهنجي في مؤتمر الإعلام وزيارة اللاجئين الروهنجيين
حديث مع اللاجئين الروهنجيين من خلف القضبان
يرويها: صلاح عبدالشكور

كان الترقب واللهفة للقاء اللاجئين المسجونين سيد الموقف ونحن نستعد للدخول إلى زنازينهم، تتناوشني هواجس كثيرة وقد لقينا من سفرنا إليهم نصباً، فُتح الباب وقيل لنا تفضلوا!! كان المشهد مفزعاً للغاية بالنسبة لي، أن أرى مجموعة من بني قومي أخرجهم العدو البوذي وطردوهم من ديارهم، واضطروا لركوب الأهوال في البحار، وحين وصلوا إلى سواحل بعض الدول، وضعوا في السجون ومراكز الاحتجاز لدخولهم البلاد بطريقة غير شرعية، والجميع يعلم أن النظام لا يفرق بين من دخل البلاد لأجل التكسب أو التجارة والبقاء وبين من اضطر لإنقاذ نفسه من الموت المحقق على أيدي البوذيين في ميانمار .

تجاسرت على نفسي وأنا أصافحهم من وراء القضبان، وانتابتني نوبة بكاء عارمة، وكنت أضغط على نفسي، كي لا أنهار أمامهم وأضج باكياً، شعور خانق وإحساس بالمسؤولية تجاه هؤلاء المحتجزين، وأما هم، فحزنٌ بحجم هذا الكون كان يخيم على وجوههم، وكآبة لا نظير لها تقرؤها في نظراتهم وكلماتهم، اجتمعوا إلينا وانقسم مجموعة منهم معي ومجموعة أخرى مع الدكتور طاهر، وبدأنا نسألهم عن أحوالهم وكيف أُخرجوا من بلادهم، وما الظلم الذي وقع عليهم هناك، وما قصص معاناتهم، وكيف وصلوا إلى إندونيسيا، وما هو وضعهم في مراكز الاحتجاز، كيف يقضون ليلهم ونهارهم، ماذا يؤملون؟ ماذا يتمنون، أدعكم مع بعض أحاديثهم وشيء من قصصهم وكلها مسجلة بالفديو وستنشرها قريباً وكالة أنباء أراكان (ANA):
يقول أحد اللاجئين ممن قابلتهم: لقد واجهنا اضطهاداً بوذياً شرساً لغاية، وهم يحاولون إبادتنا بالكلية، قتلوا الرجال واغتصبوا النساء ومثّلوا بالحثث ومنعونا من الدخول والخروج والبيع والشراء، وصادروا ممتلكاتنا وأحرقوا مساجدنا ومدارسنا فضاقت بنا الحيل واسودت الحياة في عيوننا، فلم نجد طريقاً للنجاة إلا البحر فسلكناه ورأينا الموت بأعيننا، وشاهدنا مئات الروهنجيين يغرقون أمامنا، وتبتلعهم الأمواج دون أن تمتد إليهم يد مغيث .

ويقول لاجئ آخر: لقد اضطررنا للفرار من بلادنا بسبب البوذيين الذين منعونا من كل شيء حتى إنني أكلت أوراق الشجر والحشيش لأظل على قيد الحياة، وكدت أفقد حياتي، وشاهدت أمامي كيف أخذ البوذيون ابن أختي وقطعوه إرباً إرباً أمام أعيننا بالفأس، ثم أشعلوا النار في جثته، وقد أعلن حاكم منطقتنا في وسائل الإعلام؛ أن لا مكان لنا في أرضنا أراكان وأنهم سيقومون بالاستيلاء على أراضينا ومزارعنا وبيوتنا، ولا مكان لأي مسلم هنا، وبعدها بدؤوا في شنّ الحملات على أحيائنا وبيوتنا وأحرقوها بالكامل، وحين هرب الناس إلى منطقة أكياب تجمعوا هنالك تحت حراسة القوات الميانمارية فأصبحوا محاصرين بالجنود لايملكون من المؤن الغذائية إلا ما يكفي لوجبة واحدة في اليوم، والبعض ربما لا يجد وجبة واحدة في اليوم، ومن يحاول الخروج أو الهرب فسوف تلاحقه رصاصات الجنود، سألته إذن كيف تمكنتم من الخروج والهرب من هنالك؟ أجابني اللاجئ:  لقد كنا نجوع ونجمع بعض المال حتى نتمكن من إعطائه كرشاوى لجنود قوات حرس الحدود، لكي يسمحوا لنا بالعمل أو الهجرة وغير ذلك، ورغم إعطائنا لهم كل ما نملك، فقد ضربونا ضرباً مبرحاً قبل أن يسمحوا لنا بالهروب عن طريق البحر وكانوا يقولون لنا باستمرار: لا مكان للمسلمين في ميانمار اذهبوا إلى البلدان الإسلامية الأخرى واستغيثوا بملوككم وزعمائكم، وحين اشتد ضربهم علينا استغاث أحد المسلمين الروهنجيا بالله قائلاً: (ياااا الله) فرد عليه البوذي اللعين بلغة البورمان: دع الله ينقذك منا ومن مصيبتك ! أين هو؟ تعالى الله عما يقول البوذيون الظالمون علواً كبيراً ..

وسألت أحد اللاجئين كيف استطعت الخروج من أراكان ومالصعاب التي واجهتها في رحلتك حتى وصلت إلى هنا فأجاب والدمعة في عينيه: مررت بقصة مرعبة في البحر لا أنساها، كانت لحظات عسيرة تلك التي واجهنا فيها الموت، حين ركبنا على متن سفينة قديمة وعددنا فوق المائتين ومعنا بعض الأطفال، وكانت الأجواء حارة رطبة للغاية، وأبحرنا وقطعنا يومين في البحر، وبدأ الزاد الذي عندنا ينتهي، ونفد الماء وصار الناس في وضع خطير للغاية، وفي إحدى الليالي ونحن في وسط البحر، هدأت الرياح وكان الجو حاراً ورطباً حتى صرنا نشعر بضيق النَفَس، ولم يستطع من بداخل السفينة أن يبقى فيها فأخذ الناس يصعدون إلى أعلى السفينة، لعلهم يجدون نسمة هواء، تريحهم من رطوبة الأجواء وحرارة الطقس، وحين صعد الناس إلى أعلى السفينة، اختل توازنها وأخذت تميل وتضطرب، وفجأة وسط الظلام الدامس انقلبت السفينة بمن فيها من الروهنجيين، وبدأت أسمع صراخات الناس واستغاثتهم، وسرعان ما خفتت الأصوات واختفت الاستغاثات !! في هذه الأثناء غرق معظم من كان على السفينة، وبقينا نحن فقط قرابة العشرين فرداً ممن نجيد السباحة وبعضنا غرق بسبب الإرهاق والمشقة مع أنه كان يجيد السباحة، وهدأت الأصوات المستغيثة، وصعدت أرواحهم البريئة إلى بارئها، يواصل اللاجئ الروهنجي حديثه: فصرنا نسبح في الظلام حتى أشرق الفجر وتشتت بعضنا في البحر ولا ندري هل غرقوا أو نجوا وكان معي بضعة نفر، وكلنا رأينا الموت بأعيينا وأصبحنا مرهقين جداً، ولكن واصلنا السباحة إلى الثالثة ظهراً وأوشكنا على الهلاك، حتى وصلت إلينا سفينة تابعة للقوات البحرية الماليزية وأوصلونا إلى أقرب جزيرة بإندونيسيا ….

أي قلب يتحمل سماع هذه المآسي دون أن يتفطر فؤادي، وتدمى قلبه!! إنها طامة كبرى والله، ومصيبة دونها كل المصائب، ورزية من أشنع رزايا الشعب الروهنجي في عصر الحقوق والحريات، يبادون أمام العالم في البر بالقتل والإحراق وفي البحر تتلقاهم الأمواج وأهوال البحر لتهلكهم وتفنيهم كما قرأتم  ..

ورغم ما يعيشه هؤلاء اللاجئون في زنازينهم من حزن وكآبة إلا أننا رأينا في عيونهم دموع الفرح بمجيئنا وقاموا يشكروننا على تكبدنا المشاق وزيارتنا لهم وسماعنا منهم، وقالوا لنا: نحن في هذا المكان منذ أكثر من عام ولم يزرنا أحد قبلكم فجزاكم الله عنا خير الجزاء، و كان قلبي يصرخ في داخلي شفقة على حال هؤلاء، وحزناً على أولئك الغرقى، ومن سيأتي دورهم ليعيشوا ذات السيناريو على البحر، وتتكرر ذات المشاهد، فالبوذيون والحكومة الميانمارية لا زالوا يضطهدون ويهجّرون ..

أثناء حديثي مع المحتجزين تقدم نحوي شاب في عمر العشرين وبدأ يحكي لي قصته بنبرة حزينة رقّ لها قضيب الزنزانة وقال: لقد تركت خمسة أخوات لي هناك في أراكان بورما واضطررت للهجرة، وانقطع الاتصال بيني وبينهن منذ عام ولا أدري عنهم شيئاً، وانفجر باكياً ولم يستطع أن يكمل حديثه، وغاب عني .. انتهى وقت الزيارة، وودعناهم ببعض الهدايا
آسف على الإطالة، حاولت أن أنقل لكم بعض ما رأيت وسمعت مباشرة، وهناك الكثير من القصص المشابهة؛ لم تنته القصص ولم تتوقف المعاناة، هذا غيض من فيض وقطرة من بحر، أخذنا بياناتهم وودعناهم، لحظات مترعة بالحزن مشبعة بالأسى، اللهم اجبر كسرهم وارحم موتاهم ومكّن لأهليهم .. في الحلقة القادمة أسرد لكم تفاصيل رحلتنا مع اللاجئين في مناطق أخرى، وتفاصيل قصة الصورة التي أعادت الحياة لأسرة روهنجية مكلومة، عاشت الحزن ففرج الله عنها بلقطة من عدسة وكالة أنباء أراكان ANA  إلى اللقاء .

تمتمة: اللهم كن للمستضعفين المسلمين  في كل مكان، نفّس كروبهم، وفرج همومهم واحمهم من ظلم الظالمين وكيد الكائدين ..

تعليقات
Loading...