جاكرتا- إندونيسيا اليوم- يقدم تدهور أسعار النفط للدول الآسيوية التي تعتبر من كبار مستهلكي الذهب الأسود دفعا اقتصاديا كبيرا وفرصة ذهبية للانطلاق في إصلاحات بنيوية ضرورية مثل إزالة الدعم عن الطاقة، بحسب ما يرى المحللون.
ومع تباطؤ الأسواق الأساسية للصادرات في أوروبا والصين واليابان ووضع حد لبرنامج تليين السياسة النقدية في الولايات المتحدة والمضاربات على ارتفاع معدلات الفائدة الأميركية التي تثير حركة هروب للرساميل الأجنبية بحثا عن عائدات أعلى، تجد الكثير من حكومات جنوب آسيا وجنوب شرقها نفسها أمام قرارات شاقة من أجل الحفاظ على نموها.
لكن الخبراء، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية، يرون أنه مع تدهور أسعار النفط بنسبة تفوق 50 في المائة منذ يونيو (حزيران)، فإن الاتجاهات التضخمية تتراجع ما يفترض أن يسمح للمصارف المركزية بتخفيض معدلات فائداتها أو إبقائها بمستواها.
ورأى بنك التنمية الآسيوي في ديسمبر (كانون الأول) أن الدول الناشئة قد تحقق في 2015 نموا إضافيا بمتوسط نصف نقطة مئوية إذا ما بقيت أسعار النفط منخفضة.
غير أن المحللين يشيرون إلى ضرورة إجراء إصلاحات بنوية وفي مقدمها إلغاء الدعم للطاقة، وهو موضوع حساس غالبا ما أثار في الماضي تظاهرات وصل بعضها إلى حد العنف بين الطبقات الأكثر فقرا من السكان، إنما كذلك بين الطبقات المتوسطة.
وقامت ماليزيا وإندونيسيا والهند حتى الآن بتخفيض كبير للدعم على الطاقة الذي كان يزيد من العجز في ميزانياتها.
ويرى شانغ جين واي، الخبير الاختصاصي في مكتب إيه دي بي في مانيلا، أن تراجع أسعار النفط «يمثل فرصة ذهبية» للإصلاح في الدول المستوردة.
ومضى راجيف بيسواس المحلل لدى «إيه إتش إس» أبعد من ذلك، إذ اعتبر أن على الدول الآسيوية أن تغتنم أسعار الطاقة المتدنية للتصرف حالا قبل حصول «ارتفاع كبير في أسعار النفط خلال السنوات المقبل فيعزز معارضة الرأي العام لوضع حد للدعم».
ففي إندونيسيا على سبيل المثال أثارت محاولات سابقة للحد من الدعم العام للطاقة اضطرابات عنيفة كما شهدت الهند تظاهرات حول الموضوع ذاته.
غير أن الرئيس الإندونيسي الجديد جوكو ويدودو قرر في نوفمبر (تشرين الثاني) معالجة هذه المشكلة سعيا لاستخدام الادخارات التي سيتم تحقيقها من أجل تطوير البنى التحتية.
وبموازاة ذلك، فإن تراجع أسعار النفط يشكل دعما للاقتصادات المستهلكة للطاقة.
وقال راجيف بيسواس، إن «معظم الاقتصادات الآسيوية هي من كبار مستوردي النفط والغاز وسوف تستفيد من تراجع تكلفة وارداتها، كما سيستفيد المستهلكون من تراجع كلفة الطاقة». وأضاف أنه «من المتوقع على ضوء التوجه أن نحصل على تعديل موازٍ في أسعار بطاقات الطيران».
غير أن الأوضاع ليست إيجابية للجميع، فمن المتوقع أن ينعكس تدني أسعار النفط سلبا على دول مثل ماليزيا وسلطنة بروناي المصدرتان للنفط والغاز.
وماليزيا التي تشكل العائدات النفطية ما بين 30 و40 في المائة من إيرادات ميزانيتها سجلت تراجعا في سعر عملتها الرينغيت قارب 11 في المائة مقابل الدولار خلال الأشهر الستة الأخيرة. وكانت كوالالمبور توقعت في أكتوبر (تشرين الأول) نسبة نمو بين 5 و6 في المائة لعام 2015، غير أن البنك الدولي بات يتحدث عن 4.7 في المائة. ويرى محللون أن أسعار النفط ستواصل هبوطها مع ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب وقوة الدولار ولن تصعد الأسواق إلا عندما تستفيد الاقتصادات الصناعية الكبرى خاصة في آسيا من انخفاض أسعار الطاقة.
ونزلت أسعار النفط أكثر من 50 في المائة منذ يونيو مقتربة من أدنى مستوياتها في ست سنوات مع تعثر النمو الاقتصادي ويقول بعض المحللين إن التخمة المتزايدة في المعروض تعني أن الأسعار ستهبط بصورة أكبر قبل أن تتعافى.
وعلى صعيد المعروض جاءت الضغوط النزولية على النفط من طفرة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة ثم من قرار منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) عدم خفض الإنتاج لدعم الأسعار وسعيها إلى حماية حصتها في السوق في مواجهة النفط الصخري بأميركا الشمالية من خلال تقديم خصومات.
وقال بنك إيه إن زد أمس: «ما زالت احتمالات أسعار النفط تميل إلى الاتجاه النزولي في الأمد القريب».
وأضاف: «لن يبدأ منتجو النفط الصخري (الأميركيون) في الشعور بوطأة الوضع قبل ستة أشهر. علاوة على ذلك يوجد احتمال بزيادات أخرى في المعروض من أعضاء في (أوبك) تعرضوا لضغوط كبيرة مثل ليبيا ونيجيريا وفنزويلا، وهو ما قد يفرض مزيدا من الضغوط النزولية على الأسعار».
وتتوافر كميات أكبر من النفط مع تراجع معدل استخدام الاقتصادات المتباطئة وتحسن كفاءة استهلاك الطاقة.
وفي آسيا تواجه اليابان ركودا، بينما يتباطأ الطلب في الصين التي قادت انتعاش السلع الأولية في السنوات الأخيرة مع تحول ثاني أكبر اقتصاد في العالم من صناعة البناء الكثيفة الاستهلاك للطاقة إلى النمو المدعوم من المستهلكين.
وتوقعت مجموعة سيتي هذا الأسبوع تباطؤ نمو واردات الصين من النفط هذا العام قائلة، إن «كل من يأمل بأن تقود الصين موجة تعافٍ لأسعار النفط ستخيب آماله على الأرجح».
ومما يزيد من الضعف في آسيا عدم تعافي أوروبا بعد من تداعيات أزمتها الائتمانية الطاحنة التي نشبت في عامي 2008 و2009.
ويشكل الدولار عامل ضغط آخر على النفط. فمع توقع رفع مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) أسعار الفائدة هذا العام للمرة الأولى منذ 2006 بفضل قوة النمو من المرجح أن يحافظ الدولار على قوته بما يزيد من الضغط على أسواق النفط في ظل تراجع العملات الأوروبية والآسيوية.
ورغم أن الآفاق الفورية للنفط ما زالت ضعيفة يقول بعض المحللين إن انخفاض تكاليف الوقود للأسر والشركات سيدعم الطلب في مرحلة ما، خصوصا في الاقتصادات القائمة على الصناعات التحويلية.
وقالت مؤسسة كابيتال إيكونوميكس للأبحاث في ديسمبر: «يبدو أن تهاوي أسعار النفط سيطيح بالفوائض الخارجية للخليج في العام المقبل وهو ما يجعل الصين ومنطقة اليورو على رأس الاقتصادات التي تحقق فوائض في العالم».
وأشارت مجموعة سيتي إلى أن انخفاض أسعار النفط قد يوفر للصين ما يزيد على واحد في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الواردات بما يسهم في تعزيز الاستهلاك.
وفي اليابان لن يفيد انخفاض تكاليف الوقود الصناعات الكبرى فحسب، بل سيساعد أيضا على تقليص العجز الكبير الذي يرجع في جانب منه إلى ارتفاع واردات الوقود عقب إغلاق محطات الطاقة النووية في البلاد بعد انصهار بمفاعلات محطة فوكوشيما عام 2011.
أما الهند ثالث أكبر اقتصاد في آسيا فتستفيد أيضا من انخفاض أسعار النفط. وقالت شركة «بي إي آر إيه إنرجي» للأبحاث: «تحسنت آفاق النمو.. إذ إن انخفاض أسعار النفط سيسمح للأسر والشركات بزيادة إنفاقها كما يسمح للبنك المركزي بتيسير السياسة النقدية».
وبحسب «رويترز» يقول بعض المحللين، إن أسعار النفط ستصل لأدنى مستوياتها ثم تبدأ في الصعود مجددا فور خفض بعض المنتجين لإنتاجهم من أجل ضبط الأسعار المتدنية واستفادة المراكز الكبرى للصناعات التحويلية بالمنافع الاقتصادية التي تجلبها أسعار الطاقة الرخيصة بما يدفعها إلى زيادة استهلاكها من جديد. (الشرق الأوسط)