من جاكرتا إلى العواصم العربية.. الوصفة الإندونيسية لوقف نزيف الطلاق وحماية كيان الأسرة

برعلا زكريا

شكلت الأسرة عبر صيرورة التاريخ البشري الحصن المنيع الذي يحفظ للمجتمعات توازنها القيمي وللأفراد استقرارهم النفسي، فهي النواة الصلبة التي تتقاطع فيها الأبعاد الروحية والاجتماعية والاقتصادية لتشكل مناعة الدول ضد التفكك، غير أن هذه القلعة الأخيرة باتت تواجه في العالم العربي اليوم زلزالا حقيقيا تعكسه أرقام الطلاق المفزعة التي حولت ظاهرة الانفصال من استثناء إلى قاعدة تهدد الأمن القومي الاجتماعي، تكشف بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر عن وقوع حالة طلاق كل دقيقتين تقريبا، وفي المملكة العربية السعودية سجلت الهيئة العامة للإحصاء ارتفاعات غير مسبوقة تجاوزت فيها حالات الطلاق 168 حالة يوميا في بعض السنوات الأخيرة، بينما يدق العراق والكويت والجزائر والمغرب نواقيس الخطر أمام تصاعد منحنى التفكك الذي يعصف بآلاف الأسر سنويا، مما يضع الحكومات العربية أمام حتمية البحث عن حلول غير تقليدية تتجاوز المقاربات القانونية الجافة.

يلمع النموذج الإندونيسي وسط هذا المشهد القاتم كبارقة أمل وتجربة رائدة جديرة بالتصدير والاقتداء، فإندونيسيا بصفتها أكبر دولة إسلامية استطاعت ابتكار هندسة اجتماعية فريدة تديرها الدولة ممثلة في وزارة الشؤون الدينية وليس مجرد جمعيات تطوعية، حيث نجحت في مأسسة المودة والرحمة عبر منظومة وقائية وعلاجية صارمة تتجسد في هيئة المشورة والتطوير والحفاظ على الزواج المعروفة اختصارا بـ BP4، وهي مؤسسة شبه حكومية تعمل بتناغم دقيق مع المحاكم الشرعية ومكاتب الشؤون الدينية لضمان أن الزواج مشروع عمر وليس مغامرة عابرة، وهو ما تفتقده معظم الدول العربية التي يقتصر فيها دور الدولة غالبا على توثيق العقود أو فصل الخصومات قضائيا دون تدخل قبلي وازن لبناء الوعي أو تدخل بعدي احترافي للإصلاح.

تقدم جاكرتا للعالم العربي خبرتها المتراكمة في برنامج سوسكاتين، تلك الدورة التأهيلية الإلزامية التي نقلت الزواج من العرفية إلى الاحترافية، فلا يعقل في الزمن المعاصر تأسيس أسرة دون حد أدنى من المعرفة الحقوقية والصحية والنفسية، حيث تشترط إندونيسيا في كثير من مقاطعاتها الحصول على شهادة الأهلية للزواج لاجتياز هذه الدورات التي تدعمها تقنيا الوكالة الوطنية للسكان وتخطيط الأسرة عبر تطبيقات ذكية مثل إلسيميل، الذي يرصد الجاهزية الصحية والنفسية للخطيبين قبل الارتباط، وهي آلية لو تم تعميمها عربيا لجنبت محاكم الأسرة آلاف القضايا الناتجة عن عدم التوافق المبكر أو الجهل بأبجديات الحياة المشتركة.

يكمن الدرس البليغ الذي تبعث به التجربة الإندونيسية لصناع القرار والباحثين في العالم العربي في إلزامية وجدية الوساطة الأسرية داخل المحاكم الدينية، فبينما تتعامل كثير من التشريعات العربية مع الصلح كإجراء شكلي روتيني، تفرضه المحاكم الإندونيسية كمسطرة قضائية صارمة لا مفر منها، يديرها وسطاء محترفون ومحكمون معتمدون يجمعون بين الفقه الإسلامي وتقنيات فض النزاع الحديثة، ولا يقبل أي ملف طلاق إلا بعد استنفاد جلسات وساطة حقيقية وموثقة بتقارير تفصيلية، استلهام هذه المنهجية وتبيئتها في السياق العربي كفيل بإحداث ثورة ناعمة في قوانين الأحوال الشخصية تعيد للأسرة هيبتها وتوفر حلولا عملية نابعة من مرجعية إسلامية مشتركة.

تمثل هذه الهندسة الاجتماعية البديعة شكلا راقيا من أشكال الدبلوماسية الناعمة التي تصدرها إندونيسيا للعالم الإسلامي، مؤكدة أن ريادتها لا تقتصر على الثقل الديموغرافى والاقتصادي فحسب، بل تتعداه لتقديم نماذج حضارية ملهمة قادرة على صيانة الأمن المجتمعي للأمة وحماية مستقبل أجيالها.

مراجع ومصادر

1. وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية Kemenag: الموقع الرسمي والتقارير السنوية للمديرية العامة للتوجيه الإسلامي (kemenag.go.id).
2. الوكالة الوطنية للسكان وتخطيط الأسرة BKKBN: البيانات الرسمية ومنصة Elsimil للمقبلين على الزواج (bkkbn.go.id)
3. دليل المحكمة العليا الإندونيسية Mahkamah Agung: اللائحة التنظيمية رقم 1 لسنة 2016 بشأن إجراءات الوساطة في المحاكم (mahkamahagung.go.id).
4. نظام معلومات إدارة الزواج Simkah: البوابة الحكومية الرقمية لخدمات الزواج والإحصائيات الأسرية (simkah.kemenag.go.id).