indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

الرحيل

0 51

الكاتبة: ديبي سينتيا ساري

في مساءٍ صافٍ، جلست فتاةٌ صغيرةٌ على شرفة منزلها، لم تكن واسعةً جدًا ولا ضيقة، لكنها كانت كافيةً لها للهو بدُميتها القابلة للتفكيك والتركيب.كانت تلعب تارةً، وتسرح بأفكارها بعيدة تارة أخرى ، لا يُعلم ما الذي يشغل بالها. واستمرت على ذلك، ولا يُدرى كم من الوقت مضى وهي تكرر الأمر نفسه. ولكن هذه المرة كانت مختلفة، إذ تسرح طويلًا على غير عادتها.بعد تأملٍ، تبيّن أنها كانت تبكي. مهلاً، أليس هذا غريبًا؟ ما الذي يبكيها؟ هل فقدت لعبتها؟ أم أنها تحطمت؟.

بعد لحظات، أقبلت امرأةٌ ذات ملامح يعلوها أثرُ التقدم في السن، لكن ذلك لم يسلبها شيئًا من أناقتها ولا روحها الأمومية. لنسمّها سيسي. جلست بجوار الفتاة الصغيرة التي تذرف الدموع، ومدّت إليها يديها محاولة تهدئتها واحتضانها، لكن الصغيرة أبت واقتعدت إلى الوراء، نافرةً منها.

إلا أن سيسي لم تيأس، بل لجأت إلى أسلوبٍ آخر، لعلّها تفلح في كسر جدار الحزن الذي أحاط بالطفلة، فسألتها بصوتٍ رقيق:”ساري، لمَ تبكين، صغيرتي؟ تعالي وأخبريني، لعلّي أستطيع مساعدتك.” هدأت ساري قليلًا، ثم أخذت تفكر(هل أخبرها؟ هل تستطيع مساعدتي حقًا؟ أم أنها ستغضب علي ) وظلت الأسئلة تتردد في ذهنها حتى إنها لم تنتبه حين احتضنتها سيسي بحنان.

مرت لحظات، وسكنت الصغيرة تمامًا في  حضن عمتها، وراودها شعور قويّ بالرغبة في التعبيرعن مشاعرها، لكنها لم تدرِ كيف تبدأ. فجأة، أحست بيدٍ دافئة تمسح على رأسها، تلاها صوتٌ حنون يقول:
ساري، أتحبّين أن تخبريني بما يشغل بالك؟ لمَ كنتِ تبكين، يا حبيبتي؟، رفعت الصغيرة رأسها، وحدقت في عيني عمتها طويلًا، ثم قالت بصوتٍ خافت:”أشتاق إلى أبي، عمّتي.”

تجمدت سيسي للحظة، وعمّ الصمت، إذ لم تكن تعلم شيئًا عن مصير والد ساري، لكنها تماسكت وأجابت بهدوء:
أنتِ تشتاقين إليه؟ إذن، ادعي له، واسألي الله أن يحفظه وييسر أمره، عسى أن يعود إليكِ قريبًا.” لكن الصغيرة، رغم حداثة سنها، لم تكن بساذجة، فقد بلغت العاشرة، وعقلها يسبق عمرها. نظرت إلى عمتها وقالت بصوتٍ متقطع:”عمّتي، في الحقيقة، أنا أعلم أن أبي رحل ولن يعود. كان ذلك بعد شجاره مع أمي، فقد رأيته يضربها، وسمعتها تبكي بحرقة وتصرخ بأنها تريد الانفصال عنه. ظلّ أبي يصرخ بغضب، وعندما رأيت ذلك، ركضت نحوها واحتضنتها، ثم صرخت في وجهه قائلة:’اذهب، لا تقترب منا!‘ ومنذ ذاك، لم أره أبدًا.”

ثم انفجرت الصغيرة بالبكاء، و ودموع تسيل:”عمّتي، هل أخطأت؟ هل كنت ابنةً عاقّة؟ هل كان عليّ أن أمنعه من الرحيل؟ أريد أبي أن يعود، أريد أن يحتضنني من جديد. أرى أمي تعمل ليلًا ونهارًا، وأشفق على أخي الذي يبكي كل ليلة لأنه لا يجد من يساعده في دراسته. كما أنني أشعر بالحزن كلما انعقد اجتماع الآباء في المدرسة، ولا أجد من يحضر عنّي. عمّتي، أرجوكِ، ساعديني في البحث عن أبي!”

لم تجد سيسي ما تقوله، فقد خانتها الكلمات، ولم تستطع سوى أن تضمّ الصغيرة بقوة، والدموع تسيل بصمت على وجنتيها. كم هو موجع أن ترى طفلةً في هذا الألم! كم هي قاسيةٌ هذه الحياة على قلبٍ صغير لم يذق بعد من الدنيا إلا مرارتها.

بعد حديثٍ طويل، شعرت الصغيرة بالإرهاق، فاستأذنت عمتها في الذهاب إلى النوم، وقالت بصوتٍ متعب:
عمّتي، سأذهب للنوم الآن، شكرًا لأنك استمعتِ لي. أرجوكِ، اعتني بأمي وأخي، فأنا دائمًا أشعر بأنني أثقل عليكم. أرجوكِ، بلّغي سلامي لهم، وقولي لهم إنني أحبهم كثيرًا.” رغم الحزن الذي كان يملأ قلبها، حاولت سيسي الابتسام، ثم أجابتها:”بالطبع، يا صغيرتي، سأخبرهم بذلك. نامي قريرة العين، حبيبتي.” بعد أن غادرت ساري، جلست سيسي في أريكة، وأخذت تهمس لنفسها:’’أهكذا يكون حال السفينة بلا ربان؟ تتقاذفها الأمواج، والركّاب لا يدرون إلى أي مرفأ تتجه؟ تُبحر في المجهول، آملة أن تصل إلى بر الأمان‘…

مع طلوع الفجر، توجهت الأم نحو غرفة ابنتها، وطرقت الباب قائلة بصوت دافئ:”ساري، استيقظي يا ابنتي، حان وقت الصلاة.” لكن لم يكن هناك سوى الصمت. شعرت الأم بالقلق، ففتحت الباب، ودخلت الغرفة. اقتربت من ابنتها، وربتت على كتفها برفق، لكنها لم تتحرك. امتدت يدها لتقلبها، فرأت وجهًا شاحبًا، وجسدًا باردًا كالجليد. وضعت يدها على أنفاسها، لكنها لم تجد لها أثرًا. عندها، شهقت بصوتٍ مخنوق، وتساقطت دموعها وهي تهمس:

إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون…”

رحلت ساري عن الدنيا، وكان وداعها بالأمس هو الوداع الأخير. فقد كانت كلماتها الأخيرة هي وصيّتها، وكان نومها تلك الليلة نومًا أبديًا. لكنّ أمنيتها تحققت أخيرًا، فقد عاد والدها يوم جنازتها، واجتمع شمل العائلة كما تمنّت دومًا… لكن دونها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.