الكبايا: جدل الثقافة المشتركة وتجلي الفروقات في حياكة الهوية

0 298

 عبدالله بوقس

صحفي وكاتب، مقيم في كوالالمبور

تحت قبة السماء الممتدة فوق أرخبيل جنوب شرق آسيا، يتنفس التاريخ عبقاً من ثقافات متداخلة نسجتها خيوط الزمن والتبادل الحضاري. بين تلك الثقافات، تقف الكابايا شاهدة على تلاقح الهويات، رمزاً أنثوياً تحمل ألوان الماضي وتعكس تناغم الطبيعة مع الإنسان. ولكن، كما أن النسيج قد يتخلله التمزق، كذلك هو الأمر مع الكابايا، التي أصبحت محوراً لنقاشات وجدالات التاريخ، والهوية، والاختلاف الثقافي، لتسرد قصصًا متداخلة بين ماليزيا، وإندونيسيا، وبروناي، وسنغافورة، وتايلاند.

تعريف وشمولية التقاليد

يشير مصطلح “الكبايا” إلى لباس تقليدي نسائي يتألف عادةً من قميص طويل الأكمام يُزين بتطريز معقد، يُرتدى فوق تنورة تقليدية. هذا اللباس يتميز بتصاميمه الأنيقة التي تجمع بين البساطة والجاذبية، ما يجعله مناسبًا للمناسبات الرسمية وغير الرسمية.

وفقًا لوثيقة اليونسكو، فإن الكبايا ليست مجرد لباس، بل هي تمثيل للمعرفة والمهارات المتوارثة، التي تحمل عبق الماضي وروح الحاضر. الكبايا ليست جديدة على مشهد الأزياء؛ فقد اكتسبت شهرة واسعة في القرن العشرين عندما بدأت مضيفات الطيران من شركات مثل “جارودا إندونيسيا” و”الخطوط الجوية الماليزية” و”الخطوط الجوية السنغافورية” في ارتدائها كزي رسمي، مما أكسبها مكانة رمزية دولية.

التشابه والاختلاف بين الدول

رغم التشارك الثقافي بين دول جنوب شرق آسيا، إلا أن الكبايا تحمل اختلافات دقيقة تعكس الطابع المحلي لكل دولة. ففي إندونيسيا، يتميز اللباس باستخدام أقمشة “الباتيك” المزخرفة بأشكال هندسية ونباتية، والتي تُعد رمزًا للهوية الوطنية الإندونيسية. أما في ماليزيا، فإن الكبايا تتسم بخياطة دقيقة على أقمشة “التول” أو “الدانتيل”، مع اعتماد ألوان أكثر تنوعًا تعكس التعددية الثقافية الماليزية.

في سنغافورة، تحظى الكبايا بمكانة خاصة بين مجتمع “البيراناكان” الذين يمزجون التراث الصيني والماليزي بأسلوب فريد في التصميم. أما بروناي، فتبرز فيها الكبايا كزيٍ فاخر يُزين بأقمشة الحرير والذهب، في حين تعتمد تايلاند تصاميم أكثر تقليدية تدمج بين ثقافة اللاهوت البوذي وزخارف الحياة الريفية.

التاريخ المشترك ووحدة في الخلافات

بالنظر إلى التاريخ، كانت الكبايا في الأصل زياً للطبقة الأرستقراطية في المجتمعات الملكية، لكنها سرعان ما أصبحت رمزًا للأناقة النسائية لجميع الطبقات الاجتماعية. ومع ذلك، فإن التاريخ لم يخلو من التوترات السياسية بين هذه الدول بشأن أحقية الانتماء الثقافي للكبايا.

على سبيل المثال، في عام 2019، أثير جدل إعلامي بعد أن ادعت إحدى الشخصيات السياسية في إندونيسيا أن الكبايا تراث إندونيسي خالص، ما أثار حفيظة ماليزيا وسنغافورة وبروناي، حيث دافعت كل دولة عن مساهمتها الثقافية في تطور الكبايا. ومع ذلك، نجحت جهود مشتركة بين الدول الخمس في ترشيح الكبايا لقائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو مؤخرا في مستهل ديسمبر الجاري 2024، مما أعاد توجيه النقاش نحو الاحتفاء بالثقافة المشتركة بدلًا من النزاعات.

الكبايا رمز للهوية المشتركة

تُظهر الكبايا كيف يمكن للثقافة أن تكون جسراً يوحد الشعوب بدلاً من أن يفرقها. فمن خلال الاعتراف بالكبايا كتراث مشترك، تحاول الدول المعنية تعزيز قيم التعاون الثقافي، كما عبرت وزيرة الثقافة التايلاندية سوداوان وانغسوباكجيكوسول بأن “الكبايا ليست مجرد لباس، بل هي انعكاس لتاريخنا المشترك ودليل على التنوع الثقافي الذي يجمعنا”.

وبالنظر إلى البيانات، تشير استطلاعات الرأي في ماليزيا وإندونيسيا إلى أن 72% من المواطنين يعتقدون أن الكبايا تمثل رمزًا للوحدة الثقافية، بينما يراها 84% من الشباب في سنغافورة كوسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية الحديثة.

ومع انتشار اللباس في جنوب شرق آسيا، إلا أن التحديات التي يواجهها التراث الثقافي في ظل العولمة، يكمن التحدي الأكبر في تعليم الأجيال الجديدة أهمية الحفاظ على الكبايا. كما قالت الناشطة الثقافية الإندونيسية لانا تي. كونتجورو: “ليس الهدف فقط هو الحفاظ على الكبايا كلباس، بل كوسيلة لفهم جذورنا وتعزيز هويتنا في وجه التحديات الحديثة”.

من الثقافة إلى السوق العالمي

ومع تصنيف الكبايا كتراث ثقافي عالمي، تظهر فرص اقتصادية هائلة لتطوير هذا اللباس كمنتج عالمي. وفقًا لتقرير أصدرته وزارة الثقافة الماليزية، يمكن أن يسهم تسويق الكبايا في جذب 15% من مجموع السياح سنويًا، مما يدعم الاقتصاد المحلي ويعزز مكانة المنطقة كوجهة ثقافية.

كما أشارت دراسات أجريت في إندونيسيا إلى أن صناعة الكبايا توفر فرص عمل لحوالي 30,000 شخص، معظمهم من النساء، مما يعكس دور الكبايا في تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة اقتصاديًا.

فلسفة اللباس وصراع البقاء

إن الكبايا ليست مجرد قطعة قماش تُرتدى، بل هي خطابٌ ثقافي يحمل في طياته تاريخاً طويلاً من التداخلات والاختلافات. هي رمزٌ للمقاومة الثقافية أمام طوفان العولمة، ودليلٌ على أن الهوية ليست ساحة للصراع، بل مساحة للتشارك والاحتفاء بالتنوع.

كما قال الفيلسوف الهندي أمارتيا سن: “الثقافة ليست تركة من الماضي فقط، بل هي جزء من حوار مستمر بين التقاليد والتحديث”. الكبايا إذن، مرآة تعكس روح جنوب شرق آسيا، بتعقيداتها وتناقضاتها، ولكن أيضاً بوحدتها المتناغمة التي تتجاوز الحدود.

تعليقات
Loading...