بالي.. جزيرة التنوع، لوحة تناغم أزلية

0 254

عبدالله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

في لحظة تأمل، وأنا أقف على منحدر معبد “أولواتو” المطل على أمواج المحيط الهندي المتكسرة أسفل الجرف، أدركت أن جزيرة بالي الاندونيسية الشهيرة ليست مجرد وجهة سياحية، بل عالم موازٍ حيث يتشابك الإنسان مع الكون في انسجامٍ نادر.

تتألق الجزيرة كأنها لوحةٌ زيتية بملمسٍ روحي، تُعيد تشكيل علاقتنا مع الجمال والتنوع وحتى المفهوم العميق للتماسك البشري.

في هذا المكان، يصبح كل حجرٍ في معبد، وكل نسمة هواء تمر عبر أشجار الغابات الاستوائية، شهادة على قدرة البشر في التكيف مع اختلافاتهم، وعلى قدرتهم على إيجاد السلام وسط التنوع.

جزيرة الآلهة والتنوع الديني

حين تطأ قدمك جزيرة بالي، تستقبلك تنويعات لا نهائية من الروحانيات، فمن بين أكثر من 20 ألف معبد هندوسي، تنتصب المساجد كعلامات هادئة على الحضور الإسلامي الذي يُشكّل أقلية تعايشت بانسجام مع الأغلبية الهندوسية منذ مئات السنين.

تشتهر الجزيرة بكونها إحدى الأقاليم الإندونيسية التي نجت من التغيرات التي طالت معظم أنحاء البلاد بعد انتشار الإسلام في القرن السادس عشر، لتصبح موطنًا للهندوسية في أرخبيلٍ ذي أغلبية مسلمة، بل أكبر دولة إسلامية من حيث تعداد السكان.

لكن بالنظر إلى هذه المعابد، لا يمكن حصر دورها في العبادة فقط، بل يبدو أن لهذه الأماكن وظيفة أعمق، وهي جسور تربط بين الإنسان ووعيه، وتعيد ترتيب أولوياته. ليس من قبيل الصدفة أن يُطلق على بالي لقب “جزيرة الآلهة”، فهنا، تغدو العقيدة متشابكة مع الفن، والطبيعة شريكة في الطقوس.

التناغم مع الطبيعة والبشرية والآلهة

“نعتقد أن الآلهة موجودة في كل مكان”، هكذا قال لي ناسك معبد أولواتو. وقفتُ هناك متأملًا فكرته: أليس هذا المفهوم قريبًا من فكرة وحدة الوجود التي ناقشها ابن عربي؟ لكن بينما كان ابن عربي يرى في “الوجود المطلق” تعبيرًا عن إلهٍ واحد يجمع بين الصفات المتناقضة، يبدو أن الهندوسية ترى الآلهة في كل مظاهر الطبيعة، حيث تتشابك الأرواح مع الصخور والبحار.

تذكرتُ هنا قول ابن رشد، الذي شدّد على ضرورة الموازنة بين العقل والدين، ورأى أن الحقيقة لا تتجزأ. هذا التوجه العقلاني يبدو متناسقًا مع “تري هيتا كارانا”، العقيدة الهندوسية التي تدعو إلى العيش بتناغم مع الطبيعة، والبشرية، والآلهة.

في جوهرها، تحثنا هذه الفلسفات على تجاوز المادة إلى ما وراءها، حيث يصبح الكون مرآة لتطلعات الإنسان الروحية.

التاريخ المشترك والتنوع الثقافي

بينما كنت أتحدث مع صديق من أبناء بالي، انفتحت أمامي بوابة الزمن، لتكشف عن قصصٍ قديمة تروي روح التعايش التي امتدت عبر الأجيال. وبصوته الهادئ، أعادني إلى عصر كانت فيه الجزيرة مسرحًا لمماليك هندوسية تتصارع على النفوذ والسلطة، إلا أن بين تلك الصراعات المتأججة، برزت لحظة مغايرة، لحظة تصالح مع الذات ومع الآخر. حكى لي عن أميرة من مملكة “بادونغ” اختارت أن تحتضن الإسلام، بعد زواجها من محارب مسلم ساعد والدها في صراعه مع مملكة “مينغوي”. كان هذا التلاقي بين السيف والعقيدة، بين الحب والإيمان، رمزًا لقدرة البشر على تجاوز خلافاتهم، وصياغة تاريخٍ مشترك تسوده روح الوئام.

أما جزيرة بالي حاليا فهي أيقونة متلألئة في عقد الأرخبيل الإندونيسي، إحدى الأقاليم الأربعة والثلاثين التي تُجسد تنوع البلاد الثقافي والديني. تتناثر مناطقها الثمانية كلوحات متناغمة، تتوسطها العاصمة دينباسار، حيث تنبض الحياة في شوارعها وأسواقها، وتُختزل في تفاصيلها روح الجزيرة بكل جمالها وثرائها فيالإنساني.

وطأة العولمة الاقتصادية

رغم التحديات الاقتصادية التي تواجه الجزيرة، لا سيما اعتمادها الكبير على السياحة، يبقى هذا التعايش أحد أعمدة قوتها الاجتماعية. فالسياحة، رغم أنها تُحول الطقوس الدينية أحيانًا إلى معروضات سياحية، ساهمت في إبراز التنوع الثقافي والديني الذي يميز الجزيرة.

وفي الوقت الذي تُدر فيه السياحة عائداتٍ ضخمة لبالي، تُظهر التقارير أن 55% من اقتصاد الجزيرة يعتمد على هذا القطاع. لكن هذه النسبة العالية تجعل الجزيرة عرضة للصدمات الاقتصادية. وفي ظل هذا الواقع، يبقى السؤال: كيف يمكن لبالي الحفاظ على هويتها الثقافية والدينية مع استمرار السياحة؟

هنا، استحضرني قول الفيلسوف الألماني هيغل: “التاريخ يُعلمنا أن البشر لا يتعلمون شيئًا من التاريخ”. قد تكون هذه العبارة تنبيهًا لبالي لتجنب مصير المجتمعات التي فقدت أصالتها تحت وطأة العولمة الاقتصادية.

تأملات من قلب الجزيرة

تُظهر جزيرة بالي أن التنوع الديني والثقافي ليس مجرد احتمال، بل شرطٌ أساسي للبقاء في عالم يتجه نحو المزيد من الاستقطاب. الرحلة في شوارع “دينباسار” أو بين معابد “أولواتو” و”باساكيه”، هي تأكيد على أن البشر يمكنهم خلق جمال يتجاوز اختلافاتهم، حيث يُصبح التعدد مصدر قوة لا انقسام.

في النهاية، تُعلّمنا بالي درسًا فلسفيًا عميقًا: أن التوازن بين المعتقدات والهوية، بين الاقتصاد والروحانية، وبين الماضي والحاضر، هو ما يصنع حضارةً تستحق البقاء. وكما قال جان جاك روسو “الحرية الحقيقية لا توجد إلا في التنوع”، كذلك تُظهر بالي كيف يمكن للتنوع أن يصبح مرآة للحرية، ورمزًا لإنسانيةٍ أرحب.

تعليقات
Loading...