خُماسية إندونيسية ضد رسوم ترامب
جدول المحتويات [hide]
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
في الاقتصاد كما في الحرب، لا تُطلق الطلقة الأولى فقط من فوهة بندقية، بل قد تنبعث من بين أسطر قانون جمركي أو هامش تقرير تجاري. هكذا، في الثاني من أبريل الجاري، ارتفعت جدران الرسوم الجمركية الأميركية في وجه صادرات إندونيسيا، بنسبة بلغت 32%، لتضع الدولة الأرخبيلية في مواجهة صامتة مع عملاق عالمي يعيد ترتيب موازين الهيمنة باسم “الحمائية”، ولكن بذهنية العقاب.
وراء هذا القرار، الذي وقّعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عودته الثانية إلى البيت الأبيض، تكمن عقيدة اقتصادية قديمة بثوب جديد وهي: تقليص الاعتماد على الخارج، وإخضاع الدول الصاعدة لمساطر الحساب عبر التجارة. لم يكن الأمر إجراءً اقتصادياً عابرًا، بل كان إعلانًا ضمنيًّا بأن الساحة العالمية لم تعد تُدار وفق قواعد السوق الحرة، بل وفق مقاييس “مَن يملك الضغط”، لا “من يصنع القيمة”.
من قراءتي للخطوات التي اتخذتها جاكرتا، لم أرَ في هذه التحركات استجابات معزولة، بل ملامح استراتيجية متماسكة يمكن تلخيصها بخمسة محاور هي: التفاوض المباشر، والتنازلات المدروسة، والاستقرار النقدي، والإصلاح الداخلي، والتحرك الإقليمي والدولي. وقد بدت لي هذه المحاور بمثابة “خُماسية غير معلنة”، تكشف عن نمط تفكير واعٍ، يرفض الانجرار إلى ردود فعل غوغائية، دون أن يتنازل عن مبدأ الحفاظ على المصالح الوطنية ضمن معادلة دولية غير عادلة بطبيعتها.
المحور الأول: السياسة بلا خصومة
التحرك الإندونيسي بدأ من بوابة الحوار، لا الصدام، حيث قررت جاكرتا إرسال وفد رفيع إلى واشنطن بقيادة وزير الاقتصاد إيرلانغا هارتارتو، في خطوة تحاكي منطق “الدبلوماسية الوقائية”، وتستهدف منع التصعيد لا خوضه. الفكرة ليست في التفاوض على الرسوم فحسب، بل في التفاوض على اللغة ذاتها وهي: أن تُقنع خصمك بأنك لا تستحق العقوبة، دون أن تعترف بأنك مذنب.
هذا النوع من الدبلوماسية، الذي يُطلق عليه في النظريات الواقعية “الاستيعاب التفاوضي”، يقوم على أساس أن الاعتراف بالسلطة لا يعني الاستسلام لها، بل فهم آلياتها والتفاوض ضمنها، وهذا ما أدركته جاكرتا.
المحور الثاني: التنازل كمناورة استراتيجية
في عالم يبدو فيه التنازل ضعفًا، تبرهن إندونيسيا عكس ذلك. فقد خفضت الرسوم على واردات أميركية مختارة – الإلكترونيات، الصلب، الأجهزة الطبية – في خطوة لا يمكن وصفها بالتراجع، بل بإعادة ترتيب الأولويات. إنها تحاول الحفاظ على “التدفق التكنولوجي” مقابل “الحد من النزيف التصديري”. والتاريخ التجاري مليء بمثل هذه المقايضات، من الصين إلى البرازيل، حيث يكون “فتح الباب الصغير ضرورةً لغلق النافذة الكبيرة”.
بل إن الموافقة الاندونسية الأخيرة على استيراد فول الصويا والغاز من الولايات المتحدة، تكشف عن محاولة لخلق توازن سياسي مغلف بثوب تجاري، وهي مقاربة أقرب إلى الاحتواء عبر التبادل، لا المواجهة بالمثل.
المحور الثالث: مواجهة الهشاشة النقدية بأدوات ثلاثية
مع هبوط الروبية الاندونسية إلى 16,700 مقابل الدولار، ومع احتمالات تجاوز عتبة 17,000، لجأ بنك إندونيسيا إلى استراتيجية “التدخل الثلاثي”، التي تجمع بين إدارة سوق العملات، والعقود الآجلة، والسندات الحكومية. هذه الاستراتيجية ليست تقنية فقط، بل فلسفية في جوهرها، إذ تفترض أن الثقة ليست نتاج البيانات، بل نتيجة الفعل السيادي في مواجهة اللايقين.
“ولعل هذا التدخل يُعيد إلى الأذهان ما أشار إليه المنظّر الاقتصادي البريطاني جون كينز، حين أكّد أن الأسواق لا تتحرك دائمًا بمنطق العقل الحسابي، بل كثيرًا ما تُقاد بالتوقعات والمزاج الجماعي، في ما سمّاه “الأرواح الحيوانية”. وقد فهمت جاكرتا هذا المنطق جيدًا، فسعت إلى ترسيخ الثقة لا عبر الأرقام فقط، بل عبر إدارة الانطباعات ومقاومة الانزلاق الحر.
المحور الرابع: إصلاح الداخل لتقوية الخارج
لم يكتفِ الرد الإندونيسي بالتحرك الخارجي، بل انعطف إلى الداخل حيث تبدأ المعركة الحقيقية. فقد أطلق الرئيس برابوو سوبيانتو حملة إصلاحات متسارعة، شملت تعديل اللوائح الاقتصادية، وتفكيك الحواجز غير الجمركية، وتيسير مناخ الاستثمار، في استجابة مباشرة لتقارير أميركية انتقدت بنية السوق الإندونيسية.
لكن السؤال يبقى: هل تأتي هذه الإصلاحات استجابة للضغوط الخارجية، أم هي صحوة متأخرة في زمن الإكراه؟ في كلتا الحالتين، فإن الاعتراف بالخلل، حتى لو جاء تحت الإكراه، قد يكون بداية التغيير البنيوي الحقيقي، لا الترقيعي.
المحور الخامس: من عزلة الدولة إلى تحالف الإقليم
في التحرك الإقليمي، تلعب جاكرتا على وتر “الدبلوماسية متعددة الأطراف”. من رابطة (آسيان) إلى مجموعة البريكس، ومن الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة إلى مساعي الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تحاول إندونيسيا أن تخلق حزام أمان تحالفي ضد الضغط الأحادي الأميركي. إنها لا تحاول الردّ على الضربة، بل تعيد بناء المسرح.
“هذا التحول من الدفاع الفردي إلى العمل الجماعي يعكس انزياحًا نوعيًا في تموضع إندونيسيا الإقليمي، ويعيد للأذهان نماذج تاريخية مثل حركة عدم الانحياز، وإن كانت بصيغة أكثر واقعية وبراغماتية. فلم تعد جاكرتا تكتفي بالانخراط في تحالفات تُصاغ خارج إرادتها، بل بدأت تضطلع بدور المُنتج الإقليمي، القادر على صياغة المواقف وتنسيق الاستجابات، لا الاكتفاء بتلقيها.
هشاشة تتحوّل إلى مناورة
ما يجري ليس حرب رسوم جمركية فحسب، بل اختبار لقدرة دولة نامية على أن تُفكّر كدولة كبرى دون أن تدّعي الحجم، أو تُكابر في التواضع. الرهان الحقيقي ليس على تقليص الأضرار، بل على تحويل الأزمة إلى منصة لتغيير المنهج.
نعم، لا تزال الروبية ضعيفة، والاعتماد على الصادرات مرتفعًا، والمالية العامة تحت ضغط، لكن الفرق بين الأزمة والانهيار يكمن في وجود خطة، ولو كانت قيد التنفيذ. ولعل إندونيسيا بدأت تدرك أن السيادة الاقتصادية ليست في رفع الشعارات، بل في صياغة الاستجابات.
وفي زمن يتقاطع فيه السوق مع السيادة، والجمركي مع الجيوسياسي، تقدم إندونيسيا نموذجًا مهمًا: أن لا تكون ضحية للقرارات الدولية، ولا متفرجًا على عواصف التجارة، بل أن تكون مشاركًا صامتًا.. يُعيد التفاوض على قواعد الاشتباك دون أن يُلوّح بالقوة.
قد لا تُسجّل هذه الخماسية في كتب “الانتصارات الاقتصادية”، لكنها بلا شك تُدرّس كخطة عقلانية، مرنة، تُثبت أن الهشاشة يمكن أن تتحول إلى أداة مناورة، إذا أحسن صانع القرار قراءة المشهد. فالاقتصاد، كما قال المفكر الفرنسي باسكال، “ليس حسابًا للأرباح فحسب، بل اختبارٌ للحكمة تحت الضغط”.
والمعركة، كما يبدو، لم تنتهِ. لكنها هذه المرة تُخاض من موقع مختلف: موقع من يعرف أنه لا يستطيع أن يربح كل شيء، لكنه يرفض أن يخسر كل شيء.