يوميات الرحلة الإندونيسية (٤)

ورابعهم صهرهم !

0 1٬185

هو “حفظ الرحمن” أبو فارس صهر سيف وإسماعيل .. شاب واعد .. ذكي نشيط .. يبني العلاقات .. يبحث عن الفرص ، ويعرف كيف يستفيد منها .. يستثمر بوقته خير استثمار ؛ ولذلك فإن ساعات النوم لديه خسارة كبيرة يربأ بنفسه أن يستسلم لها إلا بقدر ما يحفظ عليه نشاطه وهمته في العمل ؛ ولكنه ولأجل ذلك يظل نعسان في السيارة خلال تنقلاتنا بها .. يحاول أن يغالب النومَ فيغلبه النومُ ولا يرحمه ؛ بل لا يرحمه حتى السائق الإندونيسي الذي استأجرناه لخدمتنا ، كلما رآه يتمايل يمنة ويسرة من أثر النوم دق له بعنف على الطبلون أمامه وهو يهتف فيه ويصرخ : هييييه ، ثم ينفلت ضاحكا عليه بخبث وتعابث ! وربما قال له :

– في نفر سأودي زبون يركب سم سم إنت فارس .. هو نفر ينام أنا يدقو طبلون .. هو نفر يقول :

– هدايات : ليش تسوي كده؟ أنا جنرال سعودي !

أنا يقول :

– ما في مسكل بابا .. إنت نفر جنرال كوبير في سأوديا .. دهين إنت زبون أنا في إندونيسيا .. هاهاها ..

كان مقررا أن نتقابل معه في مطار جدة ؛ لنسافر معا في الطيارة نفسها ؛ ولكنه حين أقبل يقطع تذكرته أخبروه أن رحلته تأجلت كما زعم لنا من بعد ، فسافرنا من دونه وانتظرناه في ميدان ، فلما التحق بنا ، ودخل علينا ، في مكتب مضيفنا (المختار) أسرعنا نبادره بالتحية والعناق ، ونهنئه بسلامة الوصول ، وانطلق معنا بعد الغداء متوجهين بالطائرة من ميدان إلى جاكرتا ؛ كأنما جاء ميدان لينزل من طائرة ويركب أخرى خلال بضع ساعات فقط !

***

حين تركب سيارة ، أو تستقل قطارا ، أو تكون على متن باخرة ؛ فإنك تستشعر المسافة التي تقطعها وسيلة النقل التي تستخدمها في سفرك لحظة إثر لحظة ؛ ولكن حين تدخل صندوقا هائلا على هيئة أسطوانة مستديرة ، وتمكث فيه بضع ساعات منكمشا على مقعد غير مريح ؛ لتخرج منه منهكا من طول مدة الجلوس ؛ فإذا أنت في بلد آخر ؛ بل في قارة أخرى ؛ فذلك الأمر أشبه ما يكون بما ورد من تهيؤات وأحلام في روايات الخيال العلمي المؤلفة قبل عشرات السنين عن وسيلة سحرية كانوا يسمونها في رواياتهم “آلة الزمن” ! ذلك ما يخطر – ربما – ببال بعض المسافرين على متون الخطوط الجوية في وقتنا الحالي ..

إندونيسي يحب “الطعمية” !

يومبات الرحلة الاندونيسية

الصحبة في السفر ليست كالصحبة في الحضر .. السفر مظنة الصفاء والوفاء ، والنقاء والإخاء ، في العلاقات والمعاملات ؛ على الأغلب لا على الدوام طبعا ، ولكل قاعدة شواذ تؤكد حكم القاعدة ولا تنفيه ..

في الطائرة المتوجهة إلى جاكرتا كانت لنا مكاشفات ومراجعات لبعض الأحداث العائلية والمواقف الشخصية منها .

من الناس من يرى التصرف بحزم في مواقف لا ينبغي

التمادي فيها في إظهار الصبر ، ومنهم من يرى الصبر نفسه – وإن تمادى وتطاول – مِنَحا وهبات وعطايا ربانية تفتح للعبد الصابر حتى ولو بعد حين ، وإنما العبرة بالخواتيم ..

واستقبلنا في مطار جاكرتا الأخ الإندونيسي “وليد” .. شاب نبيه ، من أسرة أرستقراطية كما تبدو عليه مخايله ، خريج أزهري .. يتحدث العربية بطلاقة مقبولة .. يحب كل ما يمت بصلة إلى الثقافة المصرية ، خصوصا الفول والطعمية ..

وكان وصولنا إلى جاكرتا ليلا .. ولم نتناول خلال الرحلة القصيرة شيئا سوى حبات من الفول السوداني وفنجان من عصير البرتقال أو التفاح الذي وزع علينا في الطائرة من قبل المضيفات – وما أدراك ما المضيفات في رحلات الطيران العالقة في أجواز الفضاء ! – ولذلك ما إن رأينا مطعما مفتوحا على جانب الطريق بعد منتصف الليل يقدم المأكولات البحرية حتى أسرعنا بالنزول من السيارة والدخول فيه .

لو عاد الطنطاوي إلى إندونيسيا !

يومبات الرحلة الاندونيسية

إندونيسيا بلاد الثروات الطبيعية : برية كانت أو بحرية ، تتفنن في تقديم الأطباق الشهية للآكلين من أهل البلاد وغيرهم من المسافرين إليها .. لم تعد اليوم كما كانت قبل أكثر من ستين عاما حين كاد الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يهلك جوعا وحرمانا ..

أصبح السياح العرب وخصوصا من الخليج ظاهرة سياحية بارزة لا يمكن أن تخطئها العين ، خصوصا في بونشاك : المنطقة الجبلية الساحرة ، وأي المناطق في إندونيسيا ليست بساحرة حتى وإن لم تكن جبلية؟!

أحياء كبيرة وأسواق عظمى مخصصة لتوفير احتياجات السياح العرب ، يعمل بها إندونيسيون يمتلكون القدرة على التواصل والتعامل مع السائح العربي بلغة عربية مفهومة ؛ حتى وإن كانت مكسرة ومبنشرة ، وحالتها حالة !

أخذنا الأخ وليد بعد العشاء إلى فندق نظيف في حي هادئ منزو من أحياء جاكرتا بعيدا عن المنطقة المركزية المزدحمة .

سافر وتغرّب ؛ كي تقترب !

يومبات الرحلة الاندونيسية

استقرينا في الفندق وتواصلنا مع الأهالي في مكة وجدة عبر تطبيق “إيمو” . رأينا وجوههم ، وسمعنا أصواتهم ، وتلقينا أخبارهم ، من على بعد آلاف الكيلوات المترية .. لماذا نحب التواصل مع الأهالي خلال أسفارنا؟

إن من أشجى اللحظات الحميمية لدى المسافرين خلال أسفارهم أن يتواصلوا مع أهليهم وأحبابهم ؛ فلماذا؟

هل نمنا ليلتنا هذه؟ كلا ، لم نفعل ؛ بل ترقبنا الفجر وأديناها في مسجد قريب وجلسنا نتفرج ونصغي : ذكر جماعي يؤديه الإمام الملتحي مع بضعة نفر من المصلين لا يبلغون العشرة ، صمدوا معه ولم ينصرفوا .. أذكار ومحامد وصلوات منغمة ، بألحان شجية صافية ، ثم دعوات طويلة مأثورة في الصحيح عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ تعجبنا أن يكون الإمام حافظا لها عن ظهر قلب ويدعو بها ؛ ليؤمّن المأمومون على دعواته  خاشعين رافعين أيديهم .. وكانت صلاتنا ودعوات الإمام لنا ؛ خير ما نستفتح به يومنا في جاكرتا ..

هل نمنا صبيحتنا هذه؟ أما سيف وصهره فما أسرع ما ارتحلا إلى عالم الأحلام بعد ليلة سفر لم تخل من بعض المشقة . وأما إسماعيل وأنا فقد انطلقنا في حديث طويل متواصل لم ينقطع إلا قبل الظهر بقليل .. تحدثنا عن أشياء ومواضيع كثيرة وأشخاص نعرفهم وآخرين لا نعرفهم ونسمع بهم .. تحدثنا عن شباب يتغير الزمان ولا يتغيرون .. يصمدون ويبقون على ما هم عليه على مر الزمان .. أين السر؟ أهناك جينات وراثية تغلبهم وإن حاولوا مغالبتها والتصارع معها؟  ما دور البيئة إذاً؟ لم التربية وجهود أهلها ضد جينات لا يمكن التغلب عليها في نهاية المطاف؟

تحدثنا وطال الحديث بنا ، وشرّقنا وغرّبنا ، وحين أرغمنا أجفاننا على المنام قبل الظهر بقليل كان رفيقانا في الغرفة المجاورة قد أخذا بحظ وافر من النوم الهادئ الهنيء الذي لم يقطعه عليهم إلا مجيء الفطور إلى باب غرفتهم ..

أخذوه وتناولوه وانتهوا منه ولمّا نستيقظ .. تحدثوا وثرثروا وأطالوا الحديث والثرثرة ولما نستيقظ .. قاموا وتنصتوا علينا الباب ودقوه دقات خفيفة ولما نستيقظ .. صبروا علينا ضجرين وطال عليهم الصبر ولما نستيقظ .. جاؤوا يدقون علينا الباب دقا عنيفا وما كدنا نستيقظ .. وتأخر الوقت ولم نخرج في الوقت المعهود لمغادرة الفنادق اعتمادا على إخبارنا بخروجنا المتأخر لموظفة الاستقبال في الليل ..

ضِعنا ما بين حسناء وشمطاء !

يومبات الرحلة الاندونيسية

وتأتي الحارسة الكهلة الغليظة ومعها موظفة الاستقبال الشابة الرقيقة قبل العصر بقليل ..

فأما الكهلة المتجهمة فلا أثر لأي ابتسامة أو تسامح في وجهها وهي تطالبنا بقيمة الساعات الإضافية التي مكثناها في الفندق ..

وأما الشابة الرقيقة المتلفعة بغطاء الرأس فلا تكاد تستطيع أن تكلمنا بشيء فضلا عن أن تطالبنا بشيء لشدة حيائها وخجلها المصحوبين بلمسة جمال هادئ رقيق وديع !

لماذا يقترن ويتلازم الجمال الظاهر بجمال الباطن في كثير من الأحيان؟ هل كانت كذلك حقا أو كانت تمثل وتتصنع أمامنا لتتوزّع الأدوار المطلوب أداؤها من كل منهما؟ لو عرفت نساء أوربا ما يمثله الغطاء الساتر لشعر المرأة من إغراء وفتنة إضافية لها في عين الرجل الشرقي الملتزم : ترى هل كن يترددن في وضعه على رؤوسهن؟

وأما نحن فلا نكاد نفهم عنهما شيئا ولا نستطيع أن نُفهمهما شيئا مما نريد ، ونحاول الاستعانة بتطبيق الترجمة الفورية في الجوال فلا نبلغ من ذلك إلى ما نريد إلا بعد لأي وتعب ومشقة . ويصل الطرفان إلى طريق مسدود مجهول .. الفندق يطالبنا بقيمة إضافية كبيرة ويصر عليه ، ونصر نحن أن ندفع قيمة إضافية ولكن معقولة في نظرنا ..

ويتصل بنا السائق “أنور” ، ونتفاءل خيرا بمجيئه ، وننتظر وصوله ليتولى الوساطة والترجمة بيننا وبين الفندق فيما يطالبنا به ، ويصل أنور ولا يستطيع أن يساهم بشيء في حل المسألة المتأزمة ، ونخرج من الفندق ونحن شبه غضبى ، وأهل الفندق شبه رَضُون .. أخذوا منا مبلغا ما كنا نمنحه لهم لولا إصرارهم وتمسكهم بموقفهم .

مرارة وحلقة مفقودة !

وتطفو على ذهني من جديد الحلقة المفقودة بيننا لأجل التفاهم والتواصل الفعال رغم اللغات الأربع التي نجيدها بمجموعنا .

وأسرعنا نركب مع أنور في سيارته ، نريد اكتساب الوقت في الظاهر ، وربما نريد التخلص من الشعور بالمرارة في الحقيقة ؛ ولكن أنور لا يرحمنا ، بل يهدينا المزيد من المرارة التي لا يمكن أن تخلو منها سفرة من السفرات ؛ لأنها قطعة من العذاب كما ورد في الأثر . أي مرارة جاءنا بها أنور فور ركوبنا سيارته؟

تعليقات
Loading...