الإسلام السياسي في إندونيـسيا .. جــزء 3

0 1٬141

  بقلم: د/ محمد الدامرداش 

شهدت فترة نهاية الثمانينات والتسعينيات غضبًا شديدًا ومكتومًا في قلوب الإندونيسيين من المنتمين إلي التيار الإسلامي ، وكذا من غير الإسلاميين من الكارهين لحكم سوهارتو. وذلك بعد أن أعلن سوهارتو ما سماه بـ “القواعد الأساسية”، و إجباره لجميع المنظمات والهيئات على قبول “المبادئ الخمسة” كأساس وأيديولوجية تعلو على الإسلام والمسيحية وغيرهما (أعلن الرئيس الأسبق سوهارتو هذه المبادئ في أغسطس 1982، وقدمت للبرلمان في 1983، وأُقرت من قِبله في فبراير 1985( . في نفس الوقت عاد أبو بكر باعشير للنشاط من جديد بعد خروجه من السجن بتشكيل مجموعات دراسية صغيرة ، بدأ ذلك بتجميع المعتقلين السابقين من مجموعة مدرسته في نغروكي في اجتماع شهري بهدف معلن هو لمّ شمل الأعضاء السابقين لجماعته الإسلامية الذين فرقتهم عمليات الاعتقال في السنوات الماضية ، وارتبطت إعادة إحياء التنظيم بهيكلة علي غرار تنظيم الإخوان المسلمين من أسر وشعب متدرجة ، و كانوا يبايعون باعشير على طاعته ما دام لا يخالف قوله ما جاء في الكتاب والسنة بقسم يشبه ما درج عليه الإخوان .

وقد تلقوا توجيهات تربوية وتنظيمة من باعشير حول كيفية تشكيل مجموعات صغيرة تتكون من 8-15 شخصا في قراهم وأحيائهم السكنية، تحيي الشريعة الإسلامية فيما بينها وتسعى لجعل الإسلام منهج و إسلوب حياة. والحقيقة أن الجانب الدعوى لهذه المجموعات كان علنياً ، فالأعضاء كانوا مطالبين علنًا بالالتزام بالشرع في حياتهم، كما جاء في كتاب منهجي كتبه أبو بكر باعشير معنون باسم “الأسرة”.

ومع أن الظاهر أن الاسم مستلهم من فكر حركة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا لكن تظل هناك خصوصية لمنهج أبي بكر باعشير تجعله مستفيداً من أدبيات وفكر الإخوان لا امتداداً لهم .

وهذا ما تؤكده مشاهدات الساحة الإندونيسية اليوم . كان تنظيم الأسر الذي شكله باعشير تجربة ضيقة الدائرة وقصيرة الأجل ، فبعد أن عمل على أن يلتزم المنضمون بالإرشادات التي وجههم إليها -كتفادي المنظمات والهيئات غير الإسلامية في معاملاتهم، بما في ذلك المدارس غير الإسلامية والمحاكم وكل ما هو مخالف للشريعة-، وبعد أن كان التنظيم يجمع مبالغ قليلة من الأعضاء باسم “الإنفاق” لمساعدة الفقراء والمحتاجين من الأعضاء ولتسيير أنشطتهم، جاءت نهاية هذا الهيكل “الأسري” سريعاً في بداية عام 1985 عندما هرب باعشير إلى ماليزيا في بداية عام 1985وتم اعتقال أبرز الأعضاء.

بعد أن أصدرت المحكمة حكما يطالبه بالمثول أمام الشرطة. حينها قرر الرجل ألا يواجها حكم وشرطة سوهارتو ولا يستسلم في نفس الوقت للسجن، بل قرر الهجرة، معلناً للأتباع أنه يتبع منهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، وكانت جهة قصده ماليزيا المجاورة.

و قامت مجموعة باعشير بالعديد من الاجتماعات في منفاهم بماليزيا، قرروا فيها مطالبة أعضائهم في صولو بجاوا -موطن مجموعتهم الأصلي- بأن يعملوا على تجميع أفراد يعملون في ماليزيا في شركات يمتلكها رجال أعمال ماليزيون متعاطفون معهم، على أن يكون 20% من راتب كل فرد مخصصًا لعملهم السياسي، كما قرروا إرسال سنغكر وباعشير إلى إحدى دول الخليج لجمع تبرعات لعملهم.

لكن المجموعة لم تستطع جمع الكثير، وكان هدفهم الكبير المعلن هو تأسيس دولة إسلامية في إندونيسيا . المهم أن الرابطة بين مجموعة نغروكي في المنفى بماليزيا ومن بقي منهم في إندونيسيا ظلت قوية طوال سنوات “الهجرة”؛ بسبب علاقة الأساتذة بطلابهم أولا، وبسبب علاقة القرابة ووجود أقرباء للمنفيين تركوهم في موطنهم الأصلي، وكثير منهم منضمون إلى نفس مجموعة باعشير ؛ خصوصا بعد انتشار ظاهرة المصاهرة بين عوائل تيار الدولة الإسلامية عبر أكثر من جيل.

كما أن باعشير وسنغكر استمرا في إرسال توجيهاتهما إلى الأتباع في جاكرتا وغيرها، وظل هذا الوضع قائماً حتي سقوط سوهارتو فانقلب الحال .. أجُبر الجنرال القوي سوهارتو على الاستقالة في مايو 1998، بعد ما يزيد على ثلاثين عاما يحكم إندونيسيا بيد من حديد ، باليقين صار ذلك حدثًا يؤرخ به مرحلة فاصلة في تاريخ إندونيسيا الحديث ؛ ومثل تنحي سوهارتو انفراجة واسعة للتيار الإسلامي ليعلن عن نفسه ويظهر بقوة علي السطح ، وكان أول المسارعين للظهور من مكمنه في ماليزيا زعيم التيار الإسلامي أبو بكر باعشير .

فعاد الشيخ مسارعاً بعد 15 عاما من العيش في منفاه بماليزيا ، وعادت قيادات إسلامية كثيرة كان قد استقر بها المقام في ماليزيا وباكستان والسعودية ؛ وفي الفترة ما بين 5-7 من أغسطس لعام 2000 كان الحدث المهم حينما اجتمع شمل المجموعة المسمى مجموعة نغروكي بعد تفرق دام سنوات طويلة في مؤتمر معلن كبير في مدينة جوغجاكرتا سمي بـ”كونجرس المجاهدين” الذي يعتقد المراقبون أنه جمع كل من له صلة بتيار “الدولة الإسلامية” أو “دار الإسلام” في إندونيسيا لأول مرة في تاريخها ؛ وفيه ظهر إلى العلن للمرة الأولي ما يعرف اليوم بـ”مجلـس مجاهـدي إندونيسيا”، الذي لو قرأنا قائمة قياداته لوجدناها تكشف لنا تماما خريطة زعماء التيار الإسلامي من كل التوجهات عبر السنوات الماضية . فسرعان ما اختير أبو بكر باعشير ليكون “أمير المجاهدين”، وتوليه رئاسة مجلس “أهل الحل والعقد” ليكون الهيئة الشرعية للتنظيم المعلن حديثا عملا على تطبيق الشريعة و الهدف المعلن وجعل إندونيسيا دولة إسلامية. وتشكل هذا المجلس من : جمعية نهضة العلماء ويقدر عدد أعضائها بـ 35 مليون عضو, و المعروفة بالتيار التقليدي وهي تعتمد التوجه السلفي ، وتنتشر في القرى والأرياف أكثر من غيرها وتشتهر بالقرى والمدارس العلمية . الجمعية المحمدية ويقدر عدد أعضائها بـ 28 مليون عضو , المعروفة بالتيار الحديث (أو العصري حسب السياق الإندونيسي الخاص) ، ومن أبرز أبنائها اليوم رئيس مجلس الشعب د / أمين رئيس .

تيار الحركة الإسلامية المعاصرة المتأثر بفكر الإخوان المسلمين؛ وهو الأحدث لكنه الأسرع انتشارا، والأكثر احتضانا للشباب الإسلامي الصاعد وطلبة وطالبات الجامعات والمعاهد والثانوي. بالإضافة إلى تجمعات تعليمية أو دعوية أقل تأثيرا، كاتحاد المبلغين، وجمعية الإرشاد وبقايا مجلس شورى مسلمي إندونيسيا المتمثل في بعض الأحزاب الصغيرة، وديوان الدعوة الإسلامية الإندونيسي. وقد أدت سلسلة من التفجيرات استمرت لسنوات بدءاً من عام 2002 وضربت بالتحديد جزيرة بالي إلي حدوث حالة خوف كبيرة من الإسلاميين كانت قد هدأت قليلا بعد سوهارتو . ونسبت جميع التفجيرات التي وقعت منذ ذلك التاريخ إلى الجماعة الإسلامية ، وأيضا شملت تلك التفجيرات فندق ماريوت عام 2003 وانفجار السفارة الأسترالية عام 2004 وغيرها. وفي المقابل، أكدت الجماعة المحظورة في إندونيسيا مسؤوليتها عن التفجيرات السابقة، وأنها جاءت للرد على العلاقات الحكومية الغربية (وعلى رأسها الولايات المتحدة وأستراليا) واعتقال زعامات للتيار الإسلامي كأبي بكر باعشير ، والمجازر التي تقع بحق المسلمين في إندونيسيا .. في المقابل فإن الحكومة ماضية هي الأخرى في ملاحقة ومتابعة هذه الجماعات، عبر زيادة حدة الأحكام القضائية الصادرة بحقهم، وتعزيز قدرات الأمن الداخلية، وفتح الباب أمام الولايات المتحدة واستراليا لتلعب دوراً استخباراتياً وأمنياً أكبر في البلاد. مقابل صمت أمريكا وحلفائها عن ملف انتهاكات حقوق الإنسان .

باليقين خريطة الإسلام السياسي في إندونيسيا شديدة التنوع والتباين ، خريطة تتسارع فيها الأحداث بما ينذر بانفجارها في أي وقت علي نحو لا يتوقعه أحد . الحكومة الإندونيسية تعتنق فكرة وأيديولوجية محاربة فكرة الإسلام السياسي ، لكن تظل فكرة إقامة دولة إندونيسيا الإسلامية حلمًا يجمع شتات التيار الإسلامي

المصدر

تعليقات
Loading...