indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

فلوريس: ألوان “بادار “جدلية المعنى (5/9)

0 198

عبد الله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

الأفق في جزيرة “فلوريس” الاندونيسية مساحة تتنفس فيها الألوان، حيث تمتزج زرقة البحر بخضرة التلال، وتنسكب أشعة الشمس فوق الصخور بلونٍ نحاسيّ يلامس ملامح الأرض. المشهد متحرك، لا يعرف الثبات، فالجبال تتماهى مع الغيوم، والمياه تنحت تفاصيل جديدة مع كل موجة، بينما يقف الإنسان وسط هذا التكوين المتغير، متأملًا، كأنه يبحث عن انعكاس ذاته في هذا الامتداد اللانهائي.

في عمق هذا التناغم البصري، تتجلى جزيرة “بادار”، ككيان نابض بالحياة، ليست جزيرة محاطة بالماء، بل فضاء يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان. تتبدل ملامحها مع الضوء، تتنفس مع المدّ والجزر، كأنها تعيد خلق نفسها في كل لحظة، متجاوزة حدود الجغرافيا نحو معنى أكثر رحابة.

بين الفوضى والنظام

في “بادار”، تتلاشى الحدود بين الجمال والفوضى، حيث تلتقي العناصر المتناقضة في مشهدٍ مدهش. الجبال ليست مجرد صخور صامتة، بل كائنات تنحني أمام الزمن دون أن تنكسر، والشواطئ ليست مجرد امتداد للرمال، بل مزيجٌ متغيرٌ من الألوان، حيث يتنقل المشهد بين الأبيض، والذهبي، والوردي، وكأن الأرض نفسها تمارس فعل التجدد المستمر.

المياه هنا لا تتوقف عن إعادة تشكيل الشواطئ، كأنها تعيد كتابة القصة كل يوم، بلا بداية محددة ولا نهاية معلومة. فعند الوقوف على قمة الجزيرة، تتجلى أمام الناظر صورةٌ متحركةٌ، حيث الشواطئ الثلاثة بألوانها المختلفة تمتد كفسيفساء من الاحتمالات. ألوان الرمال تتغير، كما تتغير أفكار الإنسان، كما تتغير قناعاته، كما تتغير رؤيته لنفسه. في هذا المشهد، تصبح الطبيعة انعكاسًا لما يعتمل داخل الإنسان، بلا يقين ثابت، بلا معنى واحد.

وهنا يتردد صدى كلمات الكاتب الفرنسي ألبير كامو، الذي رأى في عبثية الوجود دعوةً للتمرد على البحث عن معنى جاهز، إذ قال: “الكون لا يفسر نفسه، لكنه يدفعنا لمحاولة الفهم”. ربما لهذا، يقف الزائر أمام هذا المشهد غير المكتمل ليجد أن الجمال ليس في وضوح المعنى، بل في اتساع الاحتمالات، في الفوضى التي تفتح أبواب التأويل، في الغموض الذي يغذي الرغبة في الفهم.

إعادة تشكيل الذات

لكن “بادار“ ليست مجرد انعكاس للعبث، بل هي أيضًا مساحة تمنح الإنسان فرصة لإعادة تشكيل ذاته. فالفوضى التي تبدو عشوائية ليست حالة من الفقدان، بل حركة مستمرة نحو التجدد، نحو الإمكانات الجديدة. هنا، وسط تضاريسها المتشابكة وشواطئها المتغيرة، يدرك المرء أن التحولات ليست نهاية، بل بدايات غير متوقعة، وأن من قلب الفوضى تولد الإمكانيات الأكثر إشراقًا، تمامًا كما تتشكل النجوم وسط الفوضى الكونية، وكما يخلق الإنسان معناه الخاص وسط تناقضات الحياة.

حين يمشي الزائر على أرض “بادار”، لا يتبع طريقًا واحدًا، بل يخلق طريقه الخاص بين الصخور والتلال. لا يقف عند نقطة ثابتة، بل يبحث عن زاويته الخاصة لرؤية المشهد. هذه ليست مجرد تجربة بصرية، بل اختبارٌ وجودي، حيث يدرك المرء أن الحياة نفسها لا تقدم إجابات جاهزة، بل تطرح الأسئلة، تفتح المسارات، تترك الاحتمالات بلا حدود.

رحلة الوصول إلى “بادار” تبدأ من مدينة “لابوان باجو”، حيث تنطلق القوارب السريعة عبر مياه فيروزية، تتنقل تحت أعين التلال الخضراء وأسراب الطيور البحرية. مع مرور الوقت، تبدأ ملامح الجزيرة بالظهور، تتجلى بشكل تدريجي وسط الضباب أو وهج الشمس، وكأنها تخرج من عمق الزمن. وعند الوصول، يدرك المسافر أن “بادار” ليست مجرد وجهة، بل عبورٌ نحو تجربة فريدة، حيث يصبح الطريق جزءًا من التجربة ذاتها، وتلتقي الأرض بالبحر في أفقٍ مفتوح.

أسئلة بلا إجابات نهائية

مع كل خطوة على هذه الجزيرة، يتلاشى إحساس الزمن الخطي، ويصبح الزمن دائرة، لحظة متكررة تُعاد صياغتها في كل تجربة. ربما لهذا، تظل “بادار“ أكثر من مجرد مشهد خلاب، فهي ليست وجهة سياحية فحسب، بل نقطة التقاء بين الفلسفة والطبيعة، بين الفوضى والجمال، بين الإنسان وذاته.

السؤال الذي تطرحه هذه الجزيرة ليس عن حقيقتها، بل عن حقيقتنا نحن. هل نحتاج إلى تفسيرٍ ثابتٍ للكون، أم أن غموضه هو ما يمنحنا القدرة على التشكّل، على التغير، على إيجاد أنفسنا في مساحات لم نكن نظن أننا سنعبرها؟

في النهاية، ربما لا تكمن أهمية الأسئلة في الإجابات، بل في قدرتها على إبقائنا في حالة من البحث الدائم، حيث لا شيء يظل ثابتًا، وحيث كل شيء، كما في “بادار”، يخضع لرقصة مستمرة بين الوجود والتجدد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.