فلوريس: مسرح الوجود وسؤال المعنى (1/9)
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
جزيرة فلوريس (Flores) ليست مجرد امتداد جغرافي في الأرخبيل الإندونيسي، حيث تتراقص الجزر بين المحيطات، بل مسرحٌ مفتوحٌ على الوجود، حيث تتجلى الطبيعة كحكمة خالدة، تتغير ملامحها لكن جوهرها يبقى سؤالًا بلا إجابة.
تمتد الجزيرة على 14,731.67 كم²، وتحتضن جبالًا بركانيةً كأنها تماثيل الزمن، وسهولًا خضراء كصفحات من كتاب الطبيعة، وشواطئ تحاور المحيط في همساتٍ لا تنتهي. ورغم أن عدد سكانها بلغ 1,962,405 نسمة، إلا أن امتدادها الواسع جعلها تبدو رحبة كالأفكار، وغامضة كالأحلام، لا تكتفي بأن تكون موطنًا للبشر، بل تحمل آثار من سبقهم.
قبل أن تتجذر الحضارة الحديثة فيها، كانت فلوريس موطنًا لإنسانها الأول “هومو فلوريسيينسيس”، ذلك الكائن القزم الذي عبر مسرح الحياة قبل خمسين ألف عام، وترك أثرًا صامتًا يشهد على تحولات البقاء. حتى اسمها لم يكن ثابتًا؛ فمن “كابو داس فلوريس” خلال حقبة الاستعمار البرتغالي إلى “نوسا نيبا” بلغة سكانها الأصليين، تظل الجزيرة عصيّة على التصنيف، كأنها تأبى أن تُحصر في تعريف واحد، بل تظل كينونة متغيرة، تتشكل وتتحول بلا نهاية.
فلوريس ليست مجرد سجلٍ لتحولات الماضي، بل كينونة تعيد صياغة ذاتها مع كل موجة، مع كل ضوء ينعكس على سطح الماء، وكأنها تستمر في خلق معناها من جديد. وكما يرى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في كتابه “الكينونة والزمان” أن “جوهر الوجود ليس في الكينونة ذاتها، بل في انفتاحها على الإمكانات”، كذلك فلوريس، ليست مجرد جزيرة، بل فضاء متحول تتجلى فيه الإمكانيات بلا حسم نهائي، حيث الزمن ليس مجرد إطار للأحداث، بل بُعد يمنح المكان معناه، ليظل كل شيء معلقًا بين الكينونة والعدم. تتركك في حالة من الترقب، فلا تمنحك يقينًا، بل تغمرك بأسئلة تتجاوز الحقائق، حيث يصبح الوجود رحلة بحث مستمرة عن المعنى، وكأن الطبيعة ذاتها تمضي في تحول لا نهائي نحو أفقها اللامحدود
بداية رحلة عبر الزمن
على مشارف الجزيرة، تقف لابوان باجو (Labuan Bajo) مدينةً تتأرجح بين زمنين، حيث تلتقي القوارب التقليدية بسفن الرحلات السياحية، ويتداخل هدير البحر مع صخب الأسواق، وكأنها نقطة عبور بين عالمين. لكنها ليست سوى مقدمة لمشهد أعمق، إذ ما إن يبتعد الزائر عن الميناء حتى يبدأ الغوص في الزمن المنسي.
و ما إن تبدأ الرحلة بعيدًا عن الميناء حتى تنكشف أوجه أخرى للجزيرة، تبدأ من واي ريبو (Wae Rebo)، القرية التي يختبئ فيها الزمن خلف الجبال، حيث تتناغم الحياة مع إيقاع الطبيعة، بلا عجلة، بلا صخب، وكأن سكانها فهموا منذ زمن بعيد أن الإنسان لا يحتاج إلى أكثر من سقف بسيط وقلب ينسجم مع الأرض.
ثم يأتي الانبهار البصري مع جزيرة بادار (Padar Island)، حيث تبدو الطبيعة كأنها قررت أن تمزج جميع ألوانها في لوحة واحدة، فالشواطئ ليست متشابهة، بعضها وردي، بعضها ذهبي، وبعضها أسود، وكأن الأرض نفسها تعبر عن عبثية الوجود، حيث لا يقدم الكون إجابات واضحة، بل يطرح أسئلة بلا نهاية.
الرحلة لا تتوقف عند الجمال وحده، فهناك أيضًا ذلك الجانب الذي يعيد الإنسان إلى غرائزه الأولى، إلى حيث يصبح البقاء هو المحور الأساسي، كما هو الحال في حديقة كومودو الوطنية (Komodo National Park)، حيث تتحرك التنانين القديمة بثقل الزمن، كأنها تذكير بأن الطبيعة لم تتغير، وأن قوانين البقاء لا تزال تحكم المشهد، تمامًا كما تصوّرت نظرية التطور، التي رأت أن الصراع من أجل البقاء هو ما يشكّل ملامح الحياة ويدفع الكائنات إلى التأقلم أو الاندثار.
ومن البدائية إلى الغموض، تأخذ البحيرة البركانية كيلي موتو (Kelimutu Crater Lake) المشهد إلى مستوى آخر، تشهد فيه تغير ألوان المياه وفق إيقاع لا يمكن التنبؤ به، وكأنها انعكاس للحياة ذاتها، حيث كل لحظة تختلف عن الأخرى، وكل فكرة قد تتحول إلى نقيضها، في تجسيد مذهل لتحول القيم، حيث لا توجد حقيقة ثابتة، بل فقط احتمالات لا نهائية.
وما بين هذه المشاهد، تتناثر نقاط أخرى تحمل كل منها تجربة فريدة، مثل كهف باتو شرمين (Batu Cermin Cave)، بوابة إلى عالم آخر، حيث ما نراه ليس الحقيقة ذاتها، بل انعكاساتها المتغيرة، أو تاكا ماكاسار (Taka Makassar)، الامتداد الرملي الذي يبدو كأنه قطعة من الفراغ نفسه، حيث لا شيء سوى البحر والسماء، ويصبح الوقوف هناك تجربة وجودية خالصة، فيما يدرك الإنسان أنه بلا حدود، بلا قيود، بلا يقين نهائي.
وحتى الشاطئ الوردي (Pink Beach)، بمزيجه الفريد من ألوان الرمال والشعاب المرجانية، لا يبدو مجرد شاطئ، بل درس في الجمال، حيث لا يكون الجمال مجرد خاصية في الأشياء، بل تجربة متكاملة تتداخل فيها الحواس والمشاعر والانطباعات الذهنية.
فلوريس حيث تبدأ الأسئلة ولا تنتهي
كل من هذه الأماكن ليست مجرد محطة جغرافية، بل تجربة وجودية قائمة بذاتها، نافذة تفتح على تأملات لا تنتهي، حيث يصبح المكان أكثر من مجرد فضاء، بل حالة من الفكر، من التساؤل، من الإدراك العميق بأن الوجود نفسه ليس معطى، بل هو شيء يُعاد اكتشافه مع كل موجة، مع كل ضوء ينعكس على سطح الماء، مع كل لحظة يصمت فيها الإنسان أمام عظمة المشهد.
في المقالات القادمة، سنعود لكل من هذه التجارب، ليس فقط لنصفها، بل لنغوص في تأملاتها، في دروسها، فيما تعكسه من فلسفات وأفكار، حيث يصبح السفر في فلوريس رحلة داخل الذات بقدر ما هو رحلة عبر المكان.
هنا، لا تقدم الطبيعة إجابات، بل تترك الأسئلة مفتوحة، حيث يبقى كل شيء متغيرًا، وحيث كل لحظة قد تحمل معها معنى جديدًا للحياة.