indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

فلوريس: “باتو شيرمين” انعكاس الحقيقة (7/9)

0 126

عبد الله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

حين تطأ قدماك جزيرة “فلوريس” الاندونيسية، لا تدخل فقط إلى بقعة جغرافية، بل إلى فضاء من الدهشة، حيث الطبيعة ليست مجرد خلفية صامتة، بل كائن حيّ، يتنفس، يتحرك، ويعيد تشكيل نفسه مع كل لحظة. هذه الجزيرة ليست مجرد مجموعة من المناظر الطبيعية، بل تجربة وجودية عميقة، تتغير مع الزمن مثل لوحة تتبدل ألوانها مع كل لمسة من ريشة الضوء.

وفي قلب هذه الجزيرة، بين التلال الصخرية والتضاريس البركانية، يختبئ كهف “باتو شيرمين”، أحد أغرب الظواهر الطبيعية وأكثرها غموضًا. هنا، يتلاعب الضوء والظلال داخل تجاويف الصخور، ليخلق مشهدًا يوحي بأن الحقيقة ليست سوى انعكاس متغير، وأن ما نراه ليس دائمًا كما نظنه. عند الوقوف في عمق هذا الكهف، يتردد سؤال وجودي في الذهن: هل نحن نرى الأشياء على حقيقتها، أم أن كل شيء مجرد انعكاس لما نعتقده حقيقة؟

بين الحقيقة والوهم

داخل كهف “باتو شيرمين”، تتسلل أشعة الشمس من خلال شقوق ضيقة، فترتد على الجدران الحجرية المصقولة، محدثةً تأثيرًا بصريًا يجعل الصخور تبدو وكأنها تضيء من الداخل. هذا المشهد يذكرنا بأن الحقيقة ليست مطلقة، بل تتغير تبعًا للزاوية التي ننظر منها. وكما قال الفيلسوف الألماني الشهير جورج فيلهلم فريدريش هيغل: “الحقيقة ليست جامدة، بل هي عملية مستمرة من التطور والانكشاف”. هذه الفكرة تتجسد داخل الكهف، حيث الضوء ليس مجرد أداة للإضاءة، بل كيان يعيد تشكيل الأشياء ويمنحها بُعدًا جديدًا.

لكن هذا الكهف لا يكشف فقط عن وهم البصر، بل عن وهم الثبات ذاته. فقد كان قبل ملايين السنين قاعًا لمحيط واسع، تعيش فيه الشعاب المرجانية، وتسبح حوله كائنات بحرية غارقة في الزمن. واليوم، بعد أن انحسرت المياه وتبدل المشهد، بقيت على جدرانه بقايا تلك الحياة البحرية، في صورة أحافير متحجرة تروي قصة الزمن المتحول. هذه الأحافير ليست مجرد شواهد جيولوجية، بل رموزٌ لتغير لا يتوقف، تمامًا كما أن الأفكار، والمعتقدات، وحتى الهويات، تتغير عبر الزمن، ولا تبقى على حالها.

رحلة إلى أعماق الذات

للوصول إلى كهف “باتو شيرمين”، تبدأ الرحلة من مدينة “لابوان باجو”، وهي أقرب نقطة حضرية إلى هذا الموقع الفريد. الكهف يبعد4  كيلومترات فقط، ويمكن الوصول إليه خلال 15 دقيقة بالسيارة أو الدراجة النارية.  ولكن المسافة الحقيقية ليست تلك التي تُقاس بالكيلومترات، بل هي رحلة بين الظل والنور، بين الإدراك والتساؤل.

عند دخول الكهف، يمر الزائر عبر ممرات ضيقة، تكاد تلتف حوله كأنها تحاول احتواءه داخل أحضانها الحجرية. الأصوات تتلاشى تدريجيًا، ولا يبقى سوى صوت خطواته، يتردد صداه بين الصخور العتيقة. المشهد مظلم في البداية، لكنه ليس ظلامًا مطلقًا، بل هو أشبه بمقدمة لقصة لم تُروَ بعد، قصة يكتبها الضوء حين يخترق الشقوق، وحين يبدأ الكهف في إظهار وجهه الحقيقي.

ومع ازدياد أعداد الزوار في السنوات الأخيرة، شهدت فلوريس طفرة سياحية دفعت السلطات إلى فرض تدابير للحفاظ على هذا التكوين الجيولوجي الفريد من التدهور البيئي. فالسياحة، رغم كونها وسيلة لاكتشاف الجمال، قد تصبح أيضًا عاملًا في طمسه إن لم تُمارس بوعي. هنا، لا يُطرح السؤال عن إمكانية الاكتشاف فقط، بل عن قدرة الإنسان على التأمل دون إفساد، على الاستمتاع دون أن يترك أثرًا يغير ملامح المكان.

لهذا، يُنصح الزوار بعدم لمس الجدران الهشة أو ترك أي بصمة خلفهم، فـ “باتو شيرمين” ليس مجرد موقع سياحي، بل كتاب مفتوح يسرد تاريخ الأرض بصمت الصخور ونقوش الضوء. في هذا الفضاء، الإدراك البيئي ليس فكرة نظرية، بل التزامٌ يتجلى في كل خطوة تُخطى دون أن تجرح الزمن، حيث يصبح الحفاظ على المكان امتدادًا لاحترام الحكايات التي نُحتت في أعماقه عبر العصور.

تأملات في انعكاسات الوجود

مع مغادرة الكهف وعودة الضوء إلى العين، يدرك الزائر أن “باتو شيرمين” لم يكن مجرد موقع جيولوجي، بل مساحة تأملية حيث الحقيقة ليست مطلقة، بل انعكاس متغير يتشكل مع كل زاوية نظر. هنا، لا يكون الظل غيابًا للنور، بل مفتاحًا لاكتشاف المعنى، كما أن الصخور لا تبوح بحقيقتها إلا حين يعيد الضوء تشكيلها.

وكما تتبدل انعكاسات الضوء داخل تجاويف الكهف، كذلك تتغير إدراكاتنا، تكشف أسرارًا جديدة مع كل لحظة وعي. حينها، يدرك الإنسان أن رحلته لم تكن فقط إلى باطن الأرض، بل إلى أعماق ذاته، حيث تتجلى الحقيقة كمرآة تتبدل انعكاساتها، لكنها لا تكفّ عن الكشف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.