فلوريس: “تاكا ماكاسار “ سراب الزمن (8/9)
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
بين زرقة البحر الممتدة كحلم لا ينتهي، وبين انعكاسات الضوء التي تنحت ملامح جديدة لكل لحظة، تتجسد “فلوريس” لا كجزيرة، بل كفكرة تتحدى الثبات، كمشهد يعيد ترتيب علاقته بالزمن والمكان. هنا، لا يسير الزمن في خط مستقيم، بل يلتف حول ذاته، يختبر احتمالاته، ويتحول إلى صدى لتجارب لا تنتهي. الطبيعة لا تمنح إجابات جاهزة، بل تفتح أبواب الأسئلة، تترك للإنسان حرية البحث وسط المدّ والجزر، وسط ألوان تتبدل مع كل شروق وغروب.
وبين “كومودو” و”بادار”، تظهر “تاكا ماكاسار “ كإشارة عابرة، كنبض رملي يخفت ثم يعود، جزيرة تتشكل وتختفي وفق إيقاع البحر، وكأنها تكتب وتعيد كتابة قصة الوجود كل يوم، تهمس بأن الثبات وهم، وبأن الحقيقة الوحيدة هي التغير المستمر.
تناغم الوجود والعدم
في هذا السياق، تأخذ “تاكا ماكاسار “ بُعدًا آخر، فهي ليست مجرد شريط رملي وسط البحر، بل مساحة من الفراغ، حيث لا شيء سوى امتداد المياه واتساع السماء. يقف الزائر هناك وكأنه معلق بين الوجود والعدم، بين الحقيقة والوهم، حيث تتلاشى الفواصل بين الذات والعالم. هذا المشهد يدفع للتأمل في رؤية الفيلسوف الروسي نيقولاي برديايف، الذي رأى أن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا حين ينفصل الإنسان عن المحدود ويذوب في اللانهائي، حيث لا قيود سوى تلك التي يصنعها وعيه.
في “تاكا ماكاسار “، حيث لا أثر للماضي ولا مسار واضح للمستقبل، يصبح الإنسان كيانًا حرًا بالكامل، مدركًا أن كل المعاني التي حاول بناءها ليست سوى سراب يفرضه الإدراك الإنساني. لكن هذه الجزيرة العائمة ليست مجرد مساحة للحريّة المطلقة، بل هي أيضًا تذكير صارخ بهشاشة الوجود. في لحظة واحدة، قد تغمرها الأمواج، قد تُمحى كما لو أنها لم تكن، وكأن الطبيعة نفسها تمارس عبثيتها المطلقة.
هذه العلاقة المعقدة بين البقاء والاختفاء، بين الامتلاء والفراغ، تكشف أن الحقيقة ليست سوى تراكب من الأوهام، وأن الهوية الإنسانية ليست ثابتة، بل تتغير بتغير الظروف والسياقات. في “تاكا ماكاسار”، حيث كل شيء عائم بين الحضور والغياب، يصبح الوجود ذاته حالة متحولة، لا تُعرّف بثباتها، بل بتجددها المستمر. هنا، لا تنبع الحقيقة من جوهر ثابت، بل تتشكل وفق الإدراك واللحظة، حيث الذات والمحيط في حالة تفاعل دائم، لا يُمكن فصل أحدهما عن الآخر.
لكن وسط هذه التأملات العميقة، هناك واقع جغرافي وسياحي لا يمكن تجاهله، فـ “تاكا ماكاسار “ تشكل نظامًا بيئيًا حساسًا، حيث تتأثر الرمال والشعاب المرجانية بتغيرات المد والجزر، مما يجعلها عرضة للاختفاء في بعض الفصول. هذه الظاهرة الطبيعية تثير نقاشًا أوسع حول العلاقة بين الاستدامة البشرية والطبيعة، وحول قدرة الإنسان على حماية ما هو بطبيعته متغير وزائل.
أفق بلا حدود
تُعد “تاكا ماكاسار” وجهة سياحية متزايدة الأهمية، حيث شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الزوار خلال السنوات الأخيرة، ما دفع السلطات إلى فرض قيود على عدد القوارب التي ترسو في محيطها، سعيًا للحفاظ على التوازن البيئي. ومع ذلك، فإن هذا التدخل البشري، وإن بدا محاولة للحماية، يظل جزءًا من معادلة التغيير، حيث لا يمكن للفعل الإنساني أن يكون محايدًا في مواجهة الطبيعة. فكل محاولة للحفاظ على المشهد كما هو، ليست إلا إعادة تشكيل له وفق منظور جديد، حيث تتماهى الإرادة البشرية مع قوانين الطبيعة، لا لمقاومتها، بل لإعادة ضبط إيقاعها وفق منطقها العابر للزمن.
وللوصول إلى “تاكا ماكاسار”، يبدأ الزوار رحلتهم من مدينة “لابوان باجو”، حيث يمكن استئجار قارب سريع للوصول إلى الجزيرة خلال45 دقيقة، أو دمجها ضمن رحلة بحرية لاستكشاف منتزه “كومودو الوطني”. لكن ما يميز التجربة هنا ليس مجرد الوصول، بل الإدراك التدريجي لفكرة أن هذه الجزيرة قد لا تكون موجودة بعد ساعات، أن الرمل الذي يقفون عليه قد يكون غارقًا تحت الأمواج عند عودتهم، وكأن الطبيعة تعيد رسم ملامحها باستمرار.
سراب الزمن العابر
مع كل مدّ وجزر، حين تتلاشى الحدود بين الرمل والماء، يدرك الزائر أن “تاكا ماكاسار” ليست مجرد بقعة جغرافية، بل انعكاس لحالة وجودية تتلاعب بالثبات والتحول. هنا، لا شيء يرسو إلى الأبد، وكل لحظة تبدو وكأنها نفيٌ لما سبقها، تمامًا كما يعيد البحر رسم هذا الامتداد الرملي بلا توقف.
ليست هذه الجزيرة إلا سرابًا يتحقق للحظة ثم يتلاشى، درسًا في استحالة امتلاك الحقيقة، حيث الإدراك ليس إلا تجربة تتغير كما تتغير الأمواج، وكما ينفلت الرمل حين نحاول الإمساك به بين أصابعنا.