indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

فلوريس: حكايات الإنسان في “واي ريبو” (3/9)

0 198

عبدالله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

بين السماء الممتدة بلا نهاية والأرض التي تنبض بالحياة، تنكشف جزيرةفلوريس الاندونيسية كلوحة يخطها الزمن بألوان الطبيعة، تتغير مع كل نسمة ريح، وتعيد رسم تفاصيلها مع كل إشراقة. ليست مجرد جزيرة تحيط بها المياه، بل كيان يتجاوز الجغرافيا، حيث الإيقاع لا يُقاس بالساعات، بل بنداء البحر، وهمس الجبال، وخطوات تتردد على دروب لم تعبّدها الحداثة.

في عمق هذا العالم البكر، تتوارى قريةواي ريبو خلف ستائر الضباب، كأنها توقفت عند لحظة منسية، تعيد للإنسان علاقته الأولى مع البساطة، مع الزمن الذي لا يعرف العجلة، ومع الطبيعة التي تحتويه كأمّ رؤوم، تحاصره بحنانها، وتحرّره في آن واحد.

عبر زمن البداية

الوصول إلى “واي ريبو” ليس مجرد عبور مكاني، بل هو اجتيازٌ زمني، حيث تسافر الروح عبر العصور لتعود إلى البداية. الرحلة تبدأ من مدينةلابوان باجو، حيث تشق الطرق الجبلية المتعرجة سبلها عبر الوديان العميقة، وصولًا إلى قريةدينغ“، حيث تتوقف السيارات ويبدأ المسار الحقيقي من ثلاث إلى أربع ساعات من السير عبر الغابات الكثيفة، بين الأشجار العملاقة التي تبدو كأبراجٍ حارسية للزمن.

هذه الرحلة ليست مجرد اختبارٍ للياقة البدنية، بل هي رحلة شاملة للروح والعقل، فكل خطوة على الأرض تنقلك إلى زمنٍ آخر، زمنٍ تتلاشى فيه ضوضاء العالم الحديث، لتحل محلها همسات الرياح وأصوات الطيور التي لا تنتهي. إن المسافر في هذه الرحلة لا يمشي فقط نحو الأمام، بل يغمره شعورٌ بالعودة إلى الأصول، إلى الجذور التي نُسيت في غمرة التحولات المعاصرة، مثلما يروي النهر قصصه في سكون الليل، لا يحتفظ بشيء إلا بالصوت الذي يتردد في الأفق.

ثم مع مرور الوقت، يتكشف المشهد، فيظهر أمام الزائر ثمانية منازل مخروطية، تقف بثبات وسط الطبيعة، وكأنها امتدادٌ لها، حيث تنصهر معها، لا تُنازعها، بل تتناغم معها كما تتناغم النجوم مع السماء. هذه المنازل ليست مجرد هياكل معماريّة، بل هي تجسيدٌ لحياةٍ لا تخضع للزمن، لحكاياتٍ بقيت صامدة على الرغم من تطور العالم من حولها.

تناغم الإنسان والمكان

في “واي ريبو”، لا يسكن الإنسان المكان، بل المكان هو الذي يسكنه. الهوية في هذه القرية لا تُقاس بالألقاب أو الوظائف، بل تُقاس بعلاقة الفرد مع الطبيعة، بانغماسه في دورة الحياة البسيطة التي لا تنتهي، حيث يتنقل من حالٍ إلى آخر كما تنتقل الرياح بين الأشجار. لقد أدرك سكان “واي ريبو”، الذين ينتمون إلى قبيلة “توكا”، أن أصولهم لا تكمن في شيء مادي، بل في تواصُلٍ عميق مع الأرض، في انسجامٍ مع الطبيعة لا يُترجم بالكلمات، بل يُحسّ به في كل تنفس وكل حركة.

هذا التصالح مع البيئة يتجسد في العادات اليومية للسكان الذين يعتمدون على الزراعة التقليدية، حيث يزرعون الأرز والخضروات وفق طرق ورثوها عن أسلافهم. منازلهم، المعروفة باسممبارو نيانغ“، ليست مجرد مساكن، بل فلسفة معمارية تعكس التناغم بين الإنسان والبيئة. مصنوعة من الخشب والقش، ترتفع في هيئة مخروطية، وكأنها تحاكي الجبال التي تحيط بها، وكأنها جزء من الطبيعة، لا انفصال لها عنها. وفقًا لتقرير اليونسكو في عام 2012، فقد حصلت القرية على جائزة التميز تقديرًا لجهودها في الحفاظ على هذا الإرث المعماري الفريد وسط زحف الحداثة.

لكن هذه الحياة ليست خالية من التحديات، فالقرى التقليدية في فلوريس تواجه صعوبات في الحفاظ على ثقافتها وسط الضغوط الاقتصادية المتزايدة. ومع ذلك، لم يستسلم سكان “واي ريبو”، بل وجدوا طريقًا يوازن بين الأصالة والتجديد، بين الماضي والمستقبل، حيث يفتحون قريتهم للزوار، لا كسائحين، بل كضيوفٍ يشاركونهم لحظات الحياة الحقيقية.

رحلة عبر الأفق

مع اقتراب الغروب، عندما تمتزج أشعة الشمس الأخيرة مع الضباب الذي يعود ليعانق الجبال، تتحول “واي ريبو” إلى مشهدٍ سريالي، وكأنها لوحة لم تُكملها الريشة بعد. في هذا المكان، يتردد السؤال الفلسفي العميق: هل نحن من نصنع الزمن، أم أن الزمن هو الذي يعيد تشكيلنا؟

في “واي ريبو”، الزمن ليس مجرّد تيارٍ يتدفق نحو المستقبل، بل هو تجربة تُعاش بكل لحظة، لا شيء ثابت ولا شيء متغير تمامًا. بل هو توازنٌ بين الاثنين، بين الإنسان والطبيعة، بين الماضي والحاضر.

سكان “واي ريبو” لم يكونوا مجرد عابرين في الزمن، بل نحتوا وجودهم بأيديهم، صانعين تجربة لا تنتمي للماضي وحده، ولا تذوب في المستقبل، بل تنبع من مساحةٍ خاصة بينهم وبين الزمن، يحاورون الحياة، يتحدونها، وكأنهم يسلكون دروب الجبال بحثًا عن معنى يتجاوز حدود المألوف.

إقرأ أيضا: 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.