فلوريس: “كومودو” وصراع البقاء الأزلي (4/9)
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
تبدو جزيرة “فلوريس“ الاندونيسية وكأنها نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، حيث تمتزج العصور وتتداخل الأزمنة في نسيجٍ طبيعي يعيد تعريف علاقة الإنسان بالطبيعة. إنها ليست مجرد أرضٍ تحيط بها المياه، بل مشهدٌ فلسفي يعكس صراع البقاء بأبسط صوره وأكثرها بدائية. في أقصى غربها، تبرز جزيرة “كومودو “ ككيانٍ منفصل، عالمٌ لا يخضع لإيقاع المدن، بل ينساب وفق قوانين الطبيعة المطلقة، حيث تتحرك الكائنات على وقع غريزةٍ لم تتغير منذ ملايين السنين. هنا، لا مجال للضعف، ولا مكان لمن لا يفهم إيقاع الأرض، فالبقاء لا يُمنح، بل يُنتزع.
التنانين وحكمة البقاء
على امتداد الجزيرة تتحرك تنانين الـ “كومودو“ كأنها مخلوقاتٌ من عصرٍ آخر، لم يمسها التطور، وكأنها دليلٌ حي على أن الطبيعة لا تكافئ الأقوى، بل الأصلح. هذه الزواحف العملاقة، التي يبلغ طولها ثلاثة أمتار، ووزنها 70 كيلوجرامًا، لا تحتاج إلى السرعة، بل تعتمد على استراتيجياتٍ أكثر دهاءً. بفضل حاسة شمّها الحادة، تستطيع التنانين تعقب فريستها من مسافاتٍ تتجاوز 8 كيلومترات، لكن قوتها الحقيقية تكمن في لعابها القاتل، الذي يحمل خليطًا من البكتيريا والسموم، مما يجعل أي عضةٍ منها مميتة. بعد أن تصيب فريستها، تنتظر بصبرٍ حتى تنهار، ثم تقترب منها لتكمل دورة البقاء كما فعل أسلافها منذ آلاف السنين.
هذا الأسلوب في الصيد يعكس بوضوح مبدأ “البقاء للأصلح”، الذي صاغه العالم البريطاني تشارلز داروين في كتابه “أصل الأنواع”. فهنا، لا يكافأ الأقوى ولا الأكثر شراسة، بل من يتكيف مع بيئته بأفضل الطرق، من يعرف متى يتحرك، ومتى ينتظر. ليس هناك تسرع، ولا هدر للطاقة، بل توازنٌ دقيق بين الفعل والصبر، بين الهجوم والانسحاب، كأن هذه الكائنات تحمل في طبيعتها حكمةً أعمق من كل النظريات البشرية عن البقاء.
لكن تنين الـ “كومودو“ ليس مجرد صيادٍ ماهر، بل كائنٌ اجتماعي معقد. الذكور تعيش منعزلةً طوال العام، لكنها تخوض معارك طاحنة في موسم التزاوج، حيث يتقاتل الأقوى للظفر بالإناث. أما الصغار، فهم يعرفون أن الخطر الأكبر يأتي من بني جنسهم، لذا يقضون سنواتهم الأولى فوق الأشجار، هربًا من البالغين الذين لن يترددوا في افتراسهم، في درسٍ قاسٍ عن قوانين الطبيعة التي لا تعترف إلا بالأقوى.
بين الاكتشاف والحماية
مع ازدياد شهرة حديقة “كومودو “ الوطنية، التي أُدرجت ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، تزايد الاهتمام بهذه الجزيرة الفريدة، ما أدى إلى تحديات بيئية كبيرة. وفقًا لوزارة السياحة الإندونيسية، فقد ارتفع عدد الزوار بشكل كبير خلال العقد الأخير، مما فرض ضغوطًا على النظام البيئي. فكيف يمكن التوفيق بين جذب السياح والحفاظ على التوازن الطبيعي؟
لحماية الجزيرة، فرضت السلطات قيودًا صارمة، حيث لا يُسمح بالدخول إلا عبر جولاتٍ منظمة من مدينة “لابوان باجو“، برفقة حراس الحديقة الوطنية، الذين لا يحمون السياح من التنانين فحسب، بل يحمون التنانين من التدخل البشري أيضًا. فقد شهدت الجزيرة محاولات صيدٍ غير قانونية، وتهريبًا لصغار التنانين، مما استدعى تشديد الرقابة للحفاظ على هذه الكائنات المهددة.
لكن كائن جزيرة “كومودو“ ليست مجرد موطنٍ للتنانين، بل تحتضن أحد أغنى النظم البيئية البحرية في العالم. تحت سطح مياهها الصافية، يزدهر عالمٌ آخر، حيث تسبح أسماك المانتا العملاقة برشاقة، والسلاحف البحرية تنزلق بين الشعاب المرجانية النابضة بالحياة، بينما تتحرك أسماك القرش بحذرٍ في الأعماق، كأنها تحرس هذا النظام الدقيق. إنها بيئةٌ مذهلة تستقطب الغواصين من جميع أنحاء العالم، في تجربةٍ تجعل الإنسان يدرك أنه مجرد زائرٍ في هذا المشهد العظيم.
درسٌ في فلسفة البقاء
عند مغادرة جزيرة “كومودو”، يظل السؤال معلقًا: هل البقاء مسألة قوة، أم فهمٍ أعمق لقوانين الطبيعة؟ ربما يكون الجواب في الطريقة التي تعيش بها تنانين الـ “كومودو”، التي لا تحاول أن تكون الأسرع أو الأقوى، بل الأكثر صبرًا، والأكثر فهمًا لإيقاع الحياة.
إنها ليست مجرد جزيرةٍ، بل درسٌ في فلسفة الوجود، حيث تدرك أن الطبيعة لا تحتاج إلى من يفسرها، بل إلى من يتعلم منها. هنا، لا يوجد عبثٌ ولا فوضى، بل نظامٌ بالغ الدقة، تسيّره قوانين غير مرئية، لكنها حتمية.
وكما صمدت تلك التنانين لملايين السنين، ستبقى الطبيعة تمضي في طريقها، غير آبهةٍ بمن يحاول ترويضها، بل مستمرةً في إعادة تشكيل ذاتها، كما كانت دائمًا، وكما ستظل، بكل قسوتها وجمالها.
فلوريس: مسرح الوجود وسؤال المعنى (1/9)