مذكرات ويوميات يروي فيها كاتبها مشاهداته في إندونيسيا حول مشاركة الوفد الروهنجي في مؤتمر الإعلام وزيارة اللاجئين الروهنجيين
مع الروهنجيين اللاجئين في ملاجئهم
يرويها: صلاح عبدالشكور
أشرقت شمس إندونيسيا، ولاح ضياء الفجر ، وتفتحت الأزهار، إنه يوم جديد من أيام رحلتنا، أخذنا نستعد لزيارة مجموعة أخرى من اللاجئين الروهنجيين وقد رتب لنا البطل الشاب أنس اليوم أربع زيارات متتالية؛ ثلاثة ملاجئ ومركز احتجاز به مجموعة من الروهنجيين، استعنا بالله وامتطينا سيارة للتنقل بين كل هذه الملاجئ، وكل ملجأ يبعد عن الآخر كيلومترات كثيرة، ونضطر للوصول إليها العبور بأكثر من محافظة وعدد من الأحياء؛ ولكن الأمر الذي كان يخفف عني عناء التنقل والترحال هو الغاية التي وضعتها نصب عيني، وهي أن أواسي هؤلاء اللاجئين، وأشعرهم بالجسد الواحد وأنقل لهم تحيات المركز الروهنجي العالمي GRC واتحاد منظمات الروهنجيا أراكان ARU وأيضاً فإني كإعلامي روهنجي أحاول أن أنقل معاناة شعبي للعالم عبر تقارير وأخبار مقروءة ومرئية، وأسعى أن لا أفوت فرصة دون رصد وتوثيق، أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم ومن كل باذل لنصرة هذا الشعب المظلوم، كما أن الفرحة التي كنت أراها في وجوه اللاجئين تجعلني أتحمل كل صعب وأغامر في كل الاتجاهات، وأشعر مهما بذلت وقدمت فهو قليل وقليل جداً في نصرة هؤلاء، أما الطبيعة الخضراء التي كانت لا تفارقنا أنّى اتجهنا، فقد كانت رفيقة رحلتي التي تمسح عني مشقة السفر، وتهدهدني بين أحضانها كلما عنّ لي أمر أو اعترتني سآمة، وتحكي لي حكاية حب مثيرة، وتروي لي أحاديث الغرام كلما زارني ملل أو انتابني شعور بالغربة، أحببتها وعشقتها من كل قلبي، وهي الأخرى بادلتني ذات الحب، ولا أنسى لقاءنا الغرامي الأخير على تلة خضراء من تلال “الجبل الأخضر” حين لهونا تحت أفياء تلك الأشجار الباسقة، ووقّع المطر على عقد عشقنا، وشهد النجم والشجر على ميثاق حبنا
وصلنا إلى ملجأ “بنشر باتو ميدان” وهو عبارة عن وحدات سكنية وفرتها هيئة الأمم المتحدة؛ كل وحدة منها عبارة عن غرفتين صغيرتين، وبعضها غرفة واحدة وصالة صغيرة، حسب العائلة وفي زاوية كل وحدة جانب يشبه المطبخ، ودورة للمياه، استقبلنا الأهالي واجتمع الرجال في باحة الملجأ وأخذنا نتحدث إليهم ونخبرهم من نحن ونسأل عن أوضاعهم وظروفهم، وأجريت معهم عدداً من المقابلات الإعلامية، ومن خلال حديثنا إليهم وجدناهم أفضل بكثير ممن هم داخل السجون ومراكز الاحتجاز، ولكن تنقصهم الكثير من الجوانب المهمة، وهم ممنوعون من العمل والتكسب وتصلهم مساعدات مالية من الأمم المتحدة تكفي لسد جوعهم بالكاد ولا تفي بكل متطلباتهم، كما أنهم ممنوعون من التنقل من الجزيرة التي وضعوا فيها إلى أي جزيرة أخرى، المشكلة الكبرى التي تحدثوا عنها هي بطء إجراءات نقلهم إلى بلد ثالث يستقبلهم كاستراليا مثلاً، فهم غير مستقرين نفسياً، وشكوا كثيراً من بطء تعاطي الجهاز الإداري بهيئة الأمم المتحدة مع ملفهم، كما أبدوا استياءهم من عدم تمكنهم من تعليم أبنائهم، والفراغ الذي يعانون منه نتيجة منعهم من العمل والتكسب، ودعناهم بعد أن أهديناهم بعض الهدايا والمعونات، وركبنا متجهين إلى ملجأ آخر يسمى ملجأ “جامنينغ” بجزيرة ميدان وهذا الملجأ عبارة عن مبنى سكني بعدة طوابق ووضع فيه جميع الأفراد “غير المتزوجين” فيه ومعظمهم من فئة الشباب، دخلنا ملجأهم، وقام منسق الزيارة باستدعاء جميع اللاجئين إلى “اللوبي ” في الدور الأرضي وأتوا بمجموعة من الكراسي ورصوها سريعاً، تجمع جميع من في الملجأ تقريباً وعددهم يقارب التسعين لاجئاً، بدأ الدكتور طاهر الأركاني حديثه بوصية جامعة مانعة ذكرهم فيها بنعمة الله وأهمية التمسك بدين الله وأداء الصلوات ووحدة الكلمة والعيش بنظام في البلد المضيف، وأوصاهم بالصبر وأن الله سيجعل لهم مخرجاً مما هم فيه، وقبيل هذا اللقاء بقليل لاحظت أحد الشباب الروهنجيين ممن يسكنون في الملجأ يحدّق النظر فيّ، ويرصد حركاتي وأنا أركب أسلاك الكاميرات وأعدّ أجهزة التوثيق بنفسي؛ حيث لا مصور يرافقني فصرت أنا المصور والمعدّ والمراسل والمخرج في آن واحد، وبعد فترة من الزمن اقترب مني هذا الشاب الروهنجي وقال بلغتنا الروهنجية : ” توي سلاه أبدو الشكور نيا فيس بوك ما أسوادا إيبا” يعني: هل أنت صلاح عبدالشكور صاحب الحساب في الفيس بوك؟ ابتسمت وقلت نعم! فابتسم حين تأكد ورأني مباشرة وقال لي: أنا أتابعك منذ فترة ولا أجيد قراءة العربية كثيراً ولكني أعرف أنك مهتم بقضيتنا، شكرته على حسن ظنه، وودعني وقعد على كرسيه، وبعد انتهاء الدكتور طاهر من كلمته، ألح علي الشاب أن يطلعني على بعض ما يعانونه في الملجأ، أخذ بيدي وقادني إلى حيث يسكنون، لاحظت أن المبنى متهالك وقديم جداً، ومرافقه مظلمة وغير نظيفة، ومياه دورات المياه العلوية تخر على الأدوار السفلية، وصنابير المياه مكسورة، وقال لي الشاب اللاجئ: لقد خاطبنا مكتب هيئة الأمم المتحدة عشرات المرات، وفي كل مرة يعدوننا بإصلاح هذه الأعطال، ولم يفعلوا شيئاً حتى اللحظة، بدوري طمأنت الشاب ووعدته أننا سنبلغ بهذه المشكلة من يستطيع حلها لو تمكنا، في نهاية اللقاء قمنا بتوزيع بعض الهدايا عليهم، وعند باب السيارة جاءني شيخ وقور،أسمر البشرة، تحيط وجهه لحية بيضاء وقال لي: لماذا لا تجلسون عندنا قليلاً لكي نطبخ لكم وتتغدون معنا فأنتم ضيوف عندنا! أحرجني هذا الشيخ بكرمه، فلم أملك إلا أن قبلت رأسه وشكرته، هذه صورة من صور الشيم الكريمة التي ظهرت في كرم هذا اللاجئ الروهنجي رغم قساوة الظرف الذي يعيشه وقد ترك أهله وأسرته وصار بعيداً عنهم ينتظر أمر الله فيه
تمتمة: إذا غامرت في شرف مروم .. فلا تقنع بما دون النجوم .. فطعم الموت في أمر حقير .. كطعم الموت في أمر عظيم