indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

دبلوماسية برابوو لما بعد الركن الخامس

0 121

عبد الله بوقس

صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور

ليست كل دعوة للحج تلويحة عابرة من الروح إلى السماء. فبعض الدعوات تُترجم على الأرض، لا بخطى العابدين وحدهم، بل بمشاريع ترسم امتدادات رمزية للنية والإرادة. هكذا قد يُفهم اقتراح الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو بإنشاء “قرية الحجاج الإندونيسيين” في مكة المكرمة: ليس كمنشأة إسكانية فحسب، بل كتصور جديد لعلاقة الإنسان بموطن شعائره، وعلاقة الدولة بمواطنيها وهم في طريقهم إلى المناسك.

ففي لحظة بدت فيها مناسك الحج وكأنه يتحول إلى سوق تنافسي من الوكالات والصفقات، يُعيد برابوو للرحلة بُعدها الإنساني. القرية المقترحة، التي أُعلن عن نية تشييدها بالشراكة مع السلطات السعودية على مساحة 50 هكتارًا، هي بمثابة مأوى رمزي لجماعة دينية تربطها رابطة واحدة: الانتظار الطويل للحظة اللقاء مع الكعبة. ولكنها أيضًا خطوة حوارية مع مفهوم “الحج” نفسه، كمجال يمكن فيه أن تتقاطع الخدمة بالرعاية، والبنية بالتقدير، والتنظيم بالاحترام.

المعنى المتجاوز للإنشاء

من منظور أولي، يبدو المشروع إداريًا – تسهيل خدمات، تقليل ازدحام، تحسين الإقامة. لكن القراءة المتأنية تكشف عن بنية رمزية أعمق: فإندونيسيا، التي يتجاوز عدد مسلميها 230 مليونًا، لم تعُد تكتفي بإرسال قوافل الحجاج، بل تريد أن تزرع لهم أثرًا ماديًا في المكان الذي طالما سافروا إليه بقلوبهم وأجسادهم.

هذه القرية ليست مسجدًا ولا جامعة. إنها مكان انتقالي، لكن بذاكرة طويلة. مكان يندمج فيه اليومي بالعقائدي، وتذوب فيه الحدود بين الحاج والمُضيف. فبدل أن يكون الحاج مجرد زائر ينتظر تعليمات مكتب حملته، يتحول إلى مقيم مؤقت في حيٍّ صُمم لأجله، بممرات يسلكها باطمئنان، وخدمات تراعي لغته وأكله ونمط حياته.

وما يُضفي على هذه الخطوة طابعًا فريدًا هو توقيتها: ففي الوقت الذي تنفتح فيه السعودية على تجديد تنظيم مواسم الحج والعمرة، وتُدخل مبادرات تقنية مثل “طريق مكة” لتبسيط الإجراءات، تأتي المبادرة الإندونيسية كجزء من مناخ جديد يربط بين الاستضافة والتخصيص، وبين الانتماء والراحة.

من السياسة إلى المناسك

ومع ذلك، لا يمكن فصل المشروع تمامًا عن خلفيته السياسية. برابوو، الذي يستعد لمرحلة رئاسية حاسمة، يعرف تمامًا أن الرمزية تلعب دورًا جوهريًا في صناعة الانطباع العام. ومشهد الرئيس وهو يرعى مشروعًا يُكرّم الحجاج الإندونيسيين، يُضاف إلى رصيده الأخلاقي والسياسي، خصوصًا في بلد تُعد فيه علاقة المواطن بالشعائر جزءًا من الهوية الوطنية.

فتصريحات المسؤولين في وزارة الشؤون الدينية الاندونيسية، بأن الرئيس “يريد حفظ كرامة الحجاج الإندونيسيين”، تتجاوز البعد الخدماتي. إنها تذكير بأن كرامة الإنسان لا تبدأ عند بوابة المطار، بل عند بوابة النية. وأن الحاج الذي انتظر سنوات، وادّخر من قوته، من حقه أن يحظى بمكان لا يشعره بالغربة في قلب مناسك الحج.

من هنا، يمكن اعتبار “القرية” نقطة توازن بين التجربة الفردية والتجهيز الجماعي، بين دعاء القلب وخدمة المؤسسة. فهي لا تُقلّل من روحانية الحج، بل تحاول حماية تلك الروحانية من التشتت وسط الزحام، والتعب، وتضارب البرامج.

ما بعد المكان

لكن الأهم من البناء، هو ما بعد البناء. ما الذي يمكن أن تُحدثه هذه القرية في تصورات الإندونيسيين عن الحج؟

ربما تعيد لهم شعور القرب، وتُبدّد ما تراكم من مشاعر الغربة اللغوية والإجرائية. وربما تخلق أيضًا مجتمعًا عابرًا للزمن، تتجدد فيه اللقاءات كل موسم، في المكان ذاته، بالعناوين ذاتها، ولكن بالقلوب المتجددة.

ولعل أهم ما يمكن أن تُحدثه هذه القرية هو كسر الرتابة البيروقراطية التي تحوّلت إليها رحلة الحج في بعض تجلياتها. فعوضًا عن أن يكون الحاج مجرّد رقم في قافلة، أو اسم في بطاقة إلكترونية، سيصبح فردًا في حيّ حيّ – له جاره، وله بقالته، وله جلساته. تجربة دينية بملامح إنسانية عميقة.

قرية تنظم الازدحام

ما طرحه الرئيس الإندونيسي برابوو لا يمكن اختزاله في مساحة الأرض ولا عدد الوحدات السكنية، بل فيما يتجاوز المادة إلى المعنى. فاقتراح “قرية الحجاج الإندونيسيين” في مكة ليس مجرد مبادرة بنيوية، بل محاولة لإعادة ترتيب العلاقة بين المواطن وشعيرته، بين شعور الاغتراب المؤقت في موسم الحج، وبين الانتماء إلى فضاء يبدو مألوفًا ومهيئًا ومفهومًا.

لقد وُجدت تجمعات إندونيسية غير رسمية في مكة منذ عقود، تحولت أحيانًا إلى مشاهد عشوائية خارجة عن التنظيم الرسمي، يعيش فيها مهاجرون أو حجاج سابقون استقروا لأسباب مختلفة. تأتي هذه القرية لتجمع شتات ذلك الحضور في حيّ منظم يستجيب لمتطلبات الرؤية السعودية الحديثة في إدارة الحشود والبنية التحتية، دون أن ينفي عن الحجاج طابعهم الثقافي أو احتياجاتهم الخاصة.

المبادرة لا تنتمي فقط إلى خطاب الدعاية السياسية، بل إلى منطق التنظيم العملي، الذي يرى في الحج تجربة إنسانية تتطلب شروطًا بيئية مناسبة، لا إسكانًا عابرًا فحسب. فالقرية ستكون نقطة التقاء بين الروح والإدارة، حيث تصبح رحلة الطاعة محاطة بعناية تليق بمقاصدها.

ليست هذه “قرية” بالمعنى المعماري وحده، بل بيت مؤقت يعترف بالحاج، يعيد إليه شعوره بالكرامة والخصوصية، ويمنحه فسحة للسكينة وسط الزحام. إنها ليست وعدًا سياسيًا، بل إجابة عملية على سؤال مزمن: كيف نجعل المناسك أكثر إنسانية؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.