indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

في يوم التعليم الوطني: هل تُعيد “المدرسة الشعبية” إحياء روح كي هاجر ديوانتارا أم تُفرغها؟

0 88

بقلم: امتنان سلطان

في يوم التعليم الوطني، الذي تحتفل به إندونيسيا في الثاني من مايو كل عام، تلوح في الأفق أسئلة حقيقية حول جوهر التعليم في البلاد، متأثرة بروح كي هاجر ديوانتارا الذي اختير تاريخ ميلاده رمزاً لهذا اليوم، تخليدًا له كرمز وطني للتعليم.

فقد كان ديوانتارا من دعاة التعليم الذي يحرّر الإنسان ويرتبط بجذوره الثقافية والاجتماعية. غير أن الواقع الحالي، في ظل مبادرات مثل “المدرسة الشعبية” التي تتبناها حكومة الرئيس برابوو، يدفعنا للتأمل: هل نُكرّس التعليم كأداة للتحرر والتنمية الذاتية، أم كمنظومة بيروقراطية جديدة تعيد إنتاج التبعية؟

لن أحتفل بعيد الاستقلال في بلدٍ سلبنا استقلاله.
– كي هاجر ديوانتارا، 1913

في عام 1913، كتب كي هاجر ديوانتارا مقاله الشهير “لو كنت هولندياً”//(Als ik een Nederlander was)//، منتقدًا بجرأة فكرة احتفال المُستَعمِر بـ “الحرية” فوق أرض مُستَعمَرة.

فكانت مقولته: ““لن أحتفل بعيد الاستقلال في بلدٍ سلبنا استقلاله” لم تكن مجرد موقف سياسي أو نقد لاذع للاستعمار الهولندي، بل إعلان لمبدأ جوهري:  أن التعليم هو مسار للثقافة والتحرر. كان يؤمن بأن التعليم ليس صناعة بيروقراطية، بل طريق لبناء إنسان حر، في فكره، وشعوره، وسلوكه.

واليوم، ونحن نحتفل بيوم التعليم الوطني في إندونيسيا، الذي يصادف ميلاد هذا المفكر العظيم، تعود الأسئلة ذاتها إلى السطح:
هل التعليم الإندونيسي اليوم ما زال يُجسد روح كي هاجر؟ أم أنه فقد ملامحه وسط مشروعات مركزية وأجندات سياسية؟

 

بين المبادئ والرؤية البيروقراطية

تفاوتت الآراء حول ماهية وأهداف مشروع “المدرسة الشعبية” الذي طُرح في ظاهره كحل لتحسين جودة التعليم وتوسيع الوصول إليه في أنحاء البلاد. فبينما يرى البعض في هذا المشروع خطوة إيجابية نحو توفير التعليم المجاني للأطفال من الأسر ذات الدخل المنخفض، يعبّر آخرون عن مخاوفهم من أن يؤدي المشروع إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات وتعزيز التمييز الاجتماعي، وتعميق الفجوات التعليمية.

انقسم النقاد بين مؤيد ومعارض، وبقي آخرون في موقع المتفرّج، يتساءلون بدورهم: إلى أي مدى يمكن لهذا المشروع أن يُسهم فعليًا في رفع جودة التعليم في البلاد؟

١. إعادة تقسيم المجتمع إلى طبقات

يُعبّر النقاد عن قلقهم من أن المشروع قد يُعيد تقسيم المجتمع إلى طبقات، مما يُعزز التمييز الاجتماعي.

وفقًا لـ أري كريستيانواتي (معلمة وكاتبة رأي في القضايا التربوية)، فإن “المدرسة الشعبية” قد تخلق فاصلًا اجتماعيًا بين الأطفال من الأسر الفقيرة والأطفال من خلفيات اقتصادية متنوعة، مما يُخالف مبدأ “التعليم للجميع” الذي يُفترض أن يكون غير تمييزي.

 

٢. مخاوف من التمييز الاجتماعي

ويتقاطع رأي عبيد مَتراجي// Ubaid Matraji// منسق شبكة مراقبة التعليم الإندونيسية (JPPI)، مع ما طرحته أري كريستياناواتي. إذ يرى هو الآخر أن إنشاء مدارس مخصصة للأطفال الفقراء يُشبه العودة إلى النظام الاستعماري، حيث كانت هناك مدارس مخصصة لفئات معينة من المجتمع. ومن هنا جاء التحذير من أن مشروع “المدرسة الشعبية”  قد يُفضي إلى تعزيز التمييز الاجتماعي والفصل بين الطلاب بناءً على خلفياتهم الاقتصادية، مما يزيد من الفجوات الطبقية ويضر بمفهوم التعليم الشامل والمتساوي.

 

٣. تحديات التمويل والإدارة

يُشير النقاد إلى أن تكلفة بناء “المدرسة الشعبية” قد تصل إلى حوالي 100 مليار روبية لمدرسة واحدة، مما يثير تساؤلات حول كفاءة استخدام الموارد المالية، خاصة في ظل وجود مدارس حكومية قائمة بحاجة إلى تحسين. ويُعتقد أن هذه الأموال كان من الأفضل استثمارها في تحسين المدارس القائمة وتوفير التعليم الجيد للجميع، بدلاً من بناء مدارس جديدة قد لا تُحقق النتائج المرجوة. وهذا ما يراهإيمان زانة الحائر//Iman Zanatul Haeri // من جمعية المعلمين.

وفي مقال نقدي بعنوان (إعادة النظر في “المدرسة الشعبية”: بين طموحات كي هاجر وواقع التفاوت في التعليم الوطني)، قدّم محمد فريد، المتخصص في علم الاجتماع التربوي ورئيس جامعة بندا نيرا في مالوكو الوسطى، أمثلة واقعية تسلط الضوء على أبسط الحقوق التعليمية التي ما زال المجتمع الإندونيسي بحاجة إليها، رغم تنوع ثقافاته وتباين مناطقه الجغرافية.

 

٤. التعليم: بين الحق والأمل

ففي العديد من مناطق إندونيسيا، لا يزال التعليم بعيدًا عن أن يكون حقًا مكفولًا فعليًا من قبل الدولة، بل هو في كثير من الحالات مجرّد أمل هش. فهناك أطفال يُجبرون على السير لساعات، وعبور أنهار وطرق وعرة، أو حتى مغادرة قراهم لأماكن بعيدة لمجرد الوصول إلى المدرسة. وفي هذا السياق، رأى محمد فريد أن المبادرات الوطنية مثل “المدرسة الشعبية” ستفقد معناها الحقيقي، ما لم تُصغِ لصوت الشعب: صوت المعلّم المتطوّع في قرية نائية، والأب الذي يرافق طفله في التعلم رغم قلّة الحيلة، والشاب الذي اضطر للهجرة من قريته لانعدام مدرسة ثانوية قريبة.

هؤلاء لا يحتاجون إلى شعارات، بل يحتاجون إلى دولة تصغي وتفعل. ولهذا، فإن الاحتفال بيوم التعليم لا يجب أن يكون فقط مناسبة خطابية، بل لحظة تأمل ومساءلة: هل نُعلّم أطفالنا ليكونوا أحراراً؟ أم فقط لنُظهر أننا نُدير التعليم؟

 

٥. مركزية القرار وفقدان استقلال التعليم المحلي

منذ زمن بعيد، دعا كي هاجر إلى أن تكون المدرسة امتدادًا للبيئة الاجتماعية والثقافية للطفل. لكن السياسات الموحدة اليوم تميل إلى تجاهل تعقيدات إندونيسيا الثقافية والجغرافية كدولة أرخبيلية ذات تنوع اجتماعي كبير. فقد أوضح الناقد الاجتماعي محمد فريد إلي أن المدارس في السواحل والجبال والمجتمعات الأصلية تمتلك احتياجات وقيماً خاصة لا يمكن فرضها من المركز. وفي هذا السياق، أشار إلى أن التنمية (بما في ذلك التعليم) يجب أن تنطلق من الوعي المحلي وتعترف بالتنوع كأساس للديمقراطية.

ومن هذا المنطلق، علق محمد فريد منتقداً: “يبدو برنامج “المدرسة الشعبية” وكأنه محاولة توحيد شكل التعليم باسم المساواة، دون اعتبار للعمق الثقافي أو المشاركة المجتمعية”. فهو يرى في هذا المشروع محاولة لتوحيد التعليم على حساب التنوّع، متسائلاً إن كنا بصدد تكرار نموذج مركزي يعيد إنتاج “المدرسة الاستعمارية” ولكن بثوب جمهوري.

 

العودة إلى الجذور وإحياء روح التعليم

وبالرجوع إلى فلسفة كي هاجر ديوانتارا في التعليم، نجد أنه وضع أسسا للتعليم باعتباره عملية ثقافية متجذرة، لا مجرد مشروع خيري أو أداة تنموية. وهذا ما سعى محمد فريد إلى استحضاره في مقالته، وإحياء قيم مؤسس التعليم الوطني، حيث أكد أن ديوانتارا لم يرَ في التعليم وسيلة “للقضاء على الفقر” فقط أو لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بل اعتبره فضاء لتشكيل الإنسان “الواعي، المتعاطف، والمسؤول”. التعليم في نظره ليس مشروعًا للمنظمات، ولا منصة للسياسات، بل مساحة لبناء شخصية تستمد معناها من ثقافتها، وبيئتها، ولغتها.

ونحن إذا نظرنا إلى التعليم كأداة بيروقراطية فقط، فسوف نخلق مدارس بلا روح: مبانٍ فخمة لكنها بعيدة عن الثقافة المحلية، مناهج متقدمة لكنها غير ذات صلة، وبيانات إحصائية براقة لكنها تخفي التفاوت الهيكلي.

فعلى الرغم من النية التي بني عليها هذا المشروع، يرى بعض المراقبين أنه قد يعيد إنتاج نموذج تعليمي بيروقراطي موحّد، يغفل التنوّع الثقافي واللغوي والجغرافي الهائل لإندونيسيا.

من المهم أن يتم تنفيذ هذا المشروع بعناية، مع ضمان تكافؤ الفرص وجودة التعليم لجميع الطلاب، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية.

 التعليم كمفتاح للتحرر

في هذا اليوم، لنُعد التفكير في جوهر التعليم الإندونيسي. نحن بحاجة إلى شجاعة لتطبيق اللامركزية الحقيقية، ليس فقط في الميزانية، بل في الرؤية. سيكون لبرنامج “المدرسة الشعبية” معنى إذا صُمم كنتيجة حوار مع الشعب، وإصغاء لاحتياجاتهم الحقيقية. إلى احتياج المعلم في أعلى الجبال، وإلى الطفل في أطراف السواحل والجزر النائية، وإلى تلك الأم التي تُشعل شمعة في العتمة ليواصل ابنها المذاكرة. عندها نستطيع أن نبني ليس فقط “مدارس” بل “إنساناً حراً”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.