كارتيني: شعلة النور في ظلمة القيود، رمز نضال المرأة الإندونيسية
جدول المحتويات
بعد الظلام يأتي النور (Habis Gelap Terbitlah Terang).
في قلب الأرخبيل الإندونيسي، وُلدت فتاة تحمل في عينيها شرارة تختلف عن نظيراتها، فتاة لم ترضَ بأن تكون صفحات حياتها مكتوبة سلفًا بحبر الصمت والطاعة. تلك الفتاة كانت رادن أجينغ كارتيني، التي ستغدو لاحقًا رمزًا خالدًا لنضال المرأة الإندونيسية، وسفيرةً فكرية تتحدى القيود لا بالسيف، بل بالكلمة والفكر واليقين.
احتفال المدارس بالأيقونة الوطنية
واليوم، بعد أكثر من قرن، ما زال صوتها يتردد في مدارس إندونيسيا، في عيون الفتيات اللواتي يرفعن أقلامهن كما رفعتها يومًا، ليكتبن فجرًا جديدًا في تاريخ وطنهن.
فالمدارس في إندونيسيا تحتفل بيوم “كارتيني”، تكريماً لنضالها، كأيقونة وطنية. ويرتدي الأطفال الملابس التقليدية ويشاركون في فعاليات ثقافية متنوعة تعكس روح هذا اليوم، مثل المسابقات والخطابة وعرض الأزياء التراثية والدراما المسرحية، تقديرًا لإرث كارتيني الخالد الذي لا يزال يلهم الأجيال.
كارتيني… صوت مبكّر للمرأة، أم أسطورة مبالغ فيها؟
تناوبت السينما الإندونيسية عرض قصة الأسطورة كارتيني عبر السنوات الماضية، وربما كان آخرها من إخراج // Hanung Bramantyo//، والذي صدر عام 2017. تناول فيه المخرج قصة “كارتيني” كأحد رموز النضال من أجل تحرر المرأة في إندونيسيا. ويُعد هذا الفيلم الظهور الثالث لشخصية هذه البطلة على الشاشة السنمائية مجسداً نضالها وتعطشها للعلم والحرية الفكرية.
إقرأ أيضا: عرض فيلم ” البطلة القومية السيدة كارتيني” في مقر الأمم المتحدة
وقد سعى الداعية الإندونيسي المعروف الشيخ آدي هداية إلى إحياء البُعد الروحي العميق في شخصية “كارتيني”وتسليط الضوء عليه في مناسبة اليوم الوطني لذكراها. فقد أشار إلى أنها لم تكن فقط رائدة في مجال تمكين المرأة، بل كانت أيضًا شخصية ذات نزعة فكرية وروحية، سعت بصدق إلى فهم الإسلام من منبعه الأصيل، ومن خلال لغةٍ تمس قلبها وعقلها معًا.
ومن دلائل هذا السعي، طلبها لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الجاوية، رغبةً منها في إدراك أعمق لروح الإسلام وتوجيهاته. وقد لبّى هذا الطلب الشيخ صالح دارات، أحد أبرز العلماء آنذاك، فقدم لها نسخة مترجمة من القرآن الكريم بعنوان “فيض الرحمن في تفسير آيات القرآن“، كهدية يوم زفافها.
كانت تلك اللحظة مفصلية في مسار كارتيني الفكري، حيث ألهمتها لاستكشاف أعمق لمعاني القرآن الكريم وتوجيهاته.
في رسائلها، كتبت عن الحجاب الثقيل الذي تُغطّى به عقول النساء، لا رؤوسهن. كتبت عن أمية تغتال الأحلام، وعن تقاليد تُقيّد الطموح باسم الطاعة. لكن صوتها لم يكن صوت تمرد أعمى، بل صوت حوار داخلي عميق، يستقي من قيم الإسلام الأولى: الحرية، والتعلم، والرحمة.
“كارتيني” هل أنصفها التاريخ؟
لم تكن “كارتيني” مجرد متمرّدة على تقاليد مجتمعها، بل كانت قارئة متأملة، تفتّحت روحها على معاني القرآن الكريم. وربما يكون هذا الجانب الجوهري قد غاب عن كثير من النقّاد، وتغافلت عنه أقلام المؤرخين عند تدوين سيرة هذه الأيقونة الإندونيسية.
سواء أكان ذلك السقوط سهواً أم طمسًا مقصودًا على عادة بعض المستشرقين، فإن الحقيقة الثابتة تبقى:
القرآن الكريم لم يكن بالنسبة لكارتيني مجرد نص يُتلى، بل كان مصدرًا للحكمة، ومرآةً للتأمل، ومفتاحًا لفهم أعمق لرسالة الإنسان في الحياة.
وقد يعود هذا التهميش إلى انشغال كثير من النقّاد والمفكرين بإبراز البُعد الليبرالي في فكر كارتيني، حيث ركّزوا على نزعتها التحررية الفردية، وسعوا لتصويرها كرمز نسوي ليبرالي بالمعنى الغربي المجرد. إلا أن هذا التناول بقي حبيس أُطر ضيقة، غافلاً عن أن كارتيني كانت تحمل رؤية تحررية ذات جذور أخلاقية وروحية، لا مجرد دعوة لانفلات من قيدٍ اجتماعي.
بعد الظلام يأتي النور
وإن كان الكثيرون يرون في” كارتيني” ناشطة اجتماعية فحسب، فإنها في جوهرها كانت روحًا قرآنية تبحث عن تفسير عادل للوجود. اختارت طريق النور لا العنف، الحوار لا الصدام، الكلمة لا السلاح.
لقد كانت نسويتها مُستنيرة، لا مستوردة، ومرجعها فكرٌ متجذّر في قيم روحية وثقافية أصيلة، لا من التمرد لأجل التمرد، في مقدمتها القرآن الكريم. وجدت فيه “كارتيني” دعوة صريحة للتعليم، وللعدل، ولتمكين الإنسان من إدراك قدره في هذه الحياة. كانت تقرأ في آياته أن النور لا يأتي إلا بعد الظلمة، وأن الفجر وليد الليل مهما طال: (ليخركم من الظلمات إلى النور) سورة الأحزاب – ٤٣.
ومن هنا جاءت مقولتها الأشهر: بعد الظلام يأتي النور (Habis Gelap Terbitlah Terang).
لم تكن مجرد عبارة، بل كانت مانفستو النور الذي آمنت به، وحرّك قلمها في رسائلها ومؤلفاتها. كانت تؤمن أن الجهل هو الظلام الحقيقي، وأن تعليم النساء ليس ترفًا، بل ضرورة لبناء مجتمع عادل، متوازن، قادر على النهوض.
امتنان سلطان | إندونيسيا اليوم
إقرأ أيضا: وزارة تمكين أجهزة الدولة والإصلاح البيروقراطي تدعم تعزيز دور المرأة في الحكومة