صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
هناك من يولدون لا في بنية النص، بل خارجه تمامًا؛ لا كأصواتٍ تُروى، بل كصمتٍ يُهمَل، كأنهم وُلدوا خارج المعنى والسرد. هؤلاء لا ينتمون إلى وطن، بل إلى فراغٍ بين وطنين، ولا يحملون هوية، بل ذاكرة ممزقة بين لغتين؛ إحداهما تُنطق على استحياء، والأخرى لا تُفهم إلا من خلف زجاج.
ليست الغربة في بعدها الجغرافي أقسى من الغربة في معناها الرمزي، حين يُختَزَل الإنسان إلى “مقيمٍ أو مخالف” ثم ينادونه مجازاً “ابن بلد”. في هذا الفراغ الهوياتي، تنمو ازدواجية الذات، ويتشكل الإنسان بوصفه سؤالاً معلّقًا، لا إجابة له في دفاتر الدولة ولا في ذاكرة الوطن. في هذا السياق، تُروى حكاية أولئك الذين وُلدوا خارج النص، فباتوا عالقين في جملة غير مكتملة من العالم.
الهوية في العتبة الضائعة
هؤلاء الذين يتنقلون بين الأوطان ليسوا مجرد مهاجرين بالمعنى التقليدي. إنهم يعيشون حالة من “العتبة” (liminality)، كما يصفها المفكر الثقافي الهندي هومي ك. بهابها في كتابه “موقع الثقافة” (The Location of Culture). في هذه العتبة، لا ينتمي الفرد إلى الداخل ولا إلى الخارج، هو موجود في مساحة بينية، كمن يقف على عتبة وطن لا يُفتح له بابه. هذا المكان بين ثقافتين، يتنازعان على الجسد والذاكرة واللغة، يحوّل الإنسان إلى كائن مستمر في التشكّل والتعريف، لا يثبت ولا يستقر.
استعار بهابها “الدرج” (stairwell) لتوضيح هذه المساحة الرمزية، مؤكداً أن الدرج يُمثل المكان الفاصل بين الهويات التي تتنازع، فهو بين الأعلى والأسفل، بين الأسود والأبيض، في حالة حركة دائمة. بهذه الطريقة، تصبح الهوية ليست شيئًا ثابتًا، بل حالة متغيرة تنشأ بين تقاطعات ثقافية، دون أن تكون قادرة على الاستقرار في ثنائيات جامدة. إذن، الهوية هي مكان ديناميكي، تعبر فيه الذات من ثقافة إلى أخرى، تلتقط شظايا منها لتصنع كيانًا جديدًا على حدود هذه الثقافات المتصارعة.
أعادتني تلك الأفكار إلى لحظة لقاء بدت كأنها مقتطعة من مشهد ما في رواية “مرثيات وطن” (Homeland Elegies) للكاتب الأمريكي-الباكستاني أياد أختر، حين التقيت بصديق الطفولة في مطار جدة، يحمل على كتفيه سبعة من الأبناء كأنهم قافلة من الأسئلة. عائدٌ قسرًا إلى إندونيسيا، الوطن الذي لا يعرفه، بعد سنواتٍ طويلةٍ قضاها في المملكة العربية السعودية، حيث وُلد وترعرع، ودرس وعمل وتزوج وأنجب أبناءه فيها، لكنه لم يحصل على اعتراف قانوني بأنه من أبنائها. رأيت في وجهه وجوهًا شاخت قبل أوانها، يجر وراءه أذيال الندم لا لأنه رحل، بل لأنه لم يُهيئ أبناءه ليوم كهذا.
لم يُحزنني شيء بقدر ما أحزنني أطفال صديقي. وجوههم شاحبة بلون الحيرة، وملامحهم غارقة في عتمة الارتباك. لم يكونوا يعرفون اللغة الإندونيسية إلا ككلماتٍ مجتزأة، ولا يعرفون من وطنهم الأصلي سوى صورٍ مبعثرة، كأنهم ينتمون إلى جغرافيا خيالية، تتردد أسماؤها في الذاكرة دون أن تنبض في الدم. لقد انتُزعوا من أرضٍ أحبّوها، ونُقلوا إلى أخرى لم يعرفوها، ليس لأنهم غرباء بالضرورة، بل لأن لا أحد غرس فيهم جذورًا تُمسك بهم حين تعصف العاصفة.
بين ثقافتين وذاكرة مفقودة
لا يمكن للأمر أن يكون مجرد حالة دراسية؛ إنه حقيقة إنسانية تحمل بين طياتها معاناة الاغتراب الثقافي وتشتت الهوية. في تقرير “إعادة تصور الهجرة والتنقل” الصادر عن المنظمة الدولية للهجرة (IOM) في 2024”، تم تسليط الضوء على معاناة المهاجرين العائدين إلى أوطانهم بعد سنوات من العيش في بيئات ثقافية مختلفة. هؤلاء العائدون لا يعودون فقط إلى جغرافيا الوطن، بل يجدون أنفسهم عائدين إلى ذاكرة ثقافية تلاشت أو تآكلت بسبب انغماسهم في ثقافة مغايرة. العودة، إذاً، ليست عملية سهلة، بل هي صراع داخلي بين ذاكرة تم محوها وواقع يُبنى من جديد.
تتوافق هذه التجربة مع ما يُسميه بهابها في كتابه بـ “المساحة الثالثة” (The Third Space)، وهي المساحة التي لا ينتمي فيها الأفراد إلى ثقافة واحدة، بل يعيشون بين ثقافتين متصارعتين. هذه المساحة تُخلق عندما يجد الأفراد أنفسهم عالقين بين ثقافتهم الأصلية التي فقدوها، وثقافة البلد الذي أقاموا فيه طويلاً. في هذا الفراغ، يصبح السؤال الأكثر إيلامًا هو: “من نحن؟”. هم ليسوا أبناء المكان الذي عاشوا فيه، ولا أبناء الوطن الذي وُلدوا فيه. يواجهون عذاب الوجود بين ثقافتين، دون أن يستطيعوا التكيف مع أياً منهما.
نظريا، الهوية ليست أوراقًا ثبوتية، بل هي تراكم رمزي من الطقوس اليومية، واللغة المكتسبة، والانتماء الثقافي. فالطفل الذي ينشأ وهو يسمع الأذان يتردد بين جدران مكة القديمة، ويتذوق طعم السليق الساخن في ليالي الشتاء، ويشارك جيرانه طبق المنتو واليغمش في مساءات رمضان، ويتناول الدبيازة الحلوة في صباح العيد على سفرةِ بيتٍ شعبيٍّ مطلٍّ على الأزقة، هو ابن هذه الأرض ثقافيًا وإن لم يكن قانونيًا. لكن حين “يُغادرها قسرا” إلى وطنه الأم دون لغةٍ بديلة، ولا ذاكرة أخرى، يُصبح كمن يقفز من سفينةٍ تحترق إلى بحرٍ لا يجيد السباحة فيه.
الأطفال الذين ينفصلون عن الهويات الثقافية التي نشأوا فيها غالبًا ما يواجهون صعوبة في تكوين الانتماء الذاتي، ويعانون من مستويات أعلى من القلق الاجتماعي مقارنة بأقرانهم في المجتمعات الثقافية المستقرة. الهوية الثقافية لا تُغرس في الجينات، بل تُبنى من خلال التجربة، واللغة، والمشاركة المجتمعية. وعندما تُفقد هذه الروابط الثقافية، يشعر الفرد بالضياع الداخلي ويجد نفسه في حالة من تشوش الهوية، مما يعوقه عن الانخراط الكامل في المجتمع.
فكيف لأب أن لا يُهيّئ أبناءه ليوم الرحيل؟ وكيف لا يُعلّمهم لغتهم الأم، ولا يعوّدهم على تقاليدهم الأصلية، ولا يغرس فيهم شجرةً تُثمر إذا ما انكسر جدار الوطن البديل؟ لقد كرر صديقي خطأ والده الذي سبقه، حين ظنّ أن البقاء في أرضٍ ما يكفي لبناء هوية، متناسيًا أن الهوية تحتاج إلى رعاية وغرس، لا إلى مجرّد “إقامة”.
لغة الروح وموطن الأمل
بين التضمين والحقيقة، فرقٌ يشبه المسافة بين الحلم والواقع: الأول جميل لكنه هشّ، والثاني مرير لكنه صادق. أبناؤنا، أبناء المهجر، يستحقون أن نُحصّنهم من خيبة الوطن حين يتنكّر لهم، وأن نمنحهم جنسية الروح، إن عجزنا عن منحهم جنسية الورق.
ربما لن نغيّر القوانين، ولن نعيد رسم خرائط الانتماء، لكن بوسعنا أن نبني أبناءنا على مقاومة الغياب، أن نغرس فيهم جذورًا لا تذبل إن انقطع العنوان، أن نمنحهم روايتهم الخاصة حتى وإن أنكرتهم فصول السرد الكبرى. ففي مواجهة العدم، يمكننا أن نكتبهم بأحرف من ذاكرة، ونرسمهم بهويةٍ تسكن الروح، حتى وإن وُلدوا خارج النص.
* الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لموقع اندونيسيا اليوم.