صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
عند التقاء الجبال بالمياه المتلألئة، حيث تعانق الشمس الأفق بلونها الناري، تنبض مدينة “لابوان باجو” الواقعة في أقصى غرب جزيرة “فلوريس“ الاندونيسية، بسحر يفيض بالحياة. هنا، تحت سماء تتلون بأطياف الذهب والياقوت، ينساب البحر كمرآة تعكس وهج الغروب، فيما ترسو القوارب على صفحة الماء كأنها أحلام عالقة بين الواقع والخيال.
المدينة ليست مجرد مرفأ، بل لوحة تتغير مع كل نسمة، تكتب حكايتها مع كل موجة. في هذا المشهد، لا شيء ساكن؛ فكل لحظة هي رقصة من الضوء واللون، تهمس للزائر بأن الزمن هنا ليس قيودًا، بل انسياب أبدي بين التغيير والتجدد.
جدلية التكيف والحرية
لطالما كان البحر أكثر من مجرد أفق مائي لسكان “لابوان باجو” ؛ كان امتدادًا لحياتهم وذاكرتهم العريقة، حيث عاشت قبائل مانغاراي وبيما وبوقس وفق إيقاع المد والجزر، متماهية مع الطبيعة، لا مفروضة عليها. لكن مع الزمن، لم يعد البحر مجرد مورد للصيد، بل أصبح فضاءً مشتركًا بين المحليين والسياح، حيث أُعيد تشكيل العلاقة معه، وفق إيقاع الحداثة التي لا تترك شيئًا على حاله.
تشير دراسة صادرة عن مركز (سويس كونتاكت) إلى أن سكان “لابوان باجو” باتوا يعتمدون على السياحة بعدما كانوا يعتمدون على الصيد والزراعة قبل عقود. هذا التحول يطرح السؤال الفلسفي الأعمق: هل يصنع الإنسان مستقبله، أم أن الظروف تفرض عليه شكله الجديد؟ فالمدينة لم تختر هذا التغيير، لكنه أصبح جزءًا من هويتها الجديدة، وكأنها مثال حي على أن الإنسان لا يوجد في قالب محدد، بل يصنع نفسه وفق ما يواجهه من احتمالات.
الشواطئ هنا ليست مجرد امتداد جغرافي، بل مرآة لهذه التحولات. شاطئ “واي سيشو“، الذي كان يومًا ملتقى الصيادين، بات واحةً للراغبين في السكينة، حيث تصطف المنتجعات دون أن تبتلع المشهد البحري. أما شاطئ “سيبايور“، فقد بات ملاذًا للغواصين، حيث تبدو الشعاب المرجانية وكأنها عالم آخر داخل العالم، وكأن البحر لم يعد مجرد سطح، بل بوابة إلى أعماق أخرى. وعلى شاطئ “بيدي“، يتجاور التراث والحداثة، حيث الأكواخ التقليدية تصمد بجوار الفنادق الحديثة، وكأنها تذكير بأن التغيير لا يعني دومًا القطيعة، بل يمكنه أن يكون امتدادًا.
عبور بين الأزمنة والوجود
يقول الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو : “الإنسان لا يوجد في حالة سكون، بل في حركة دائمة بين الأزمنة، يعيد تشكيل ذاته عبر التاريخ.” وهذا بالضبط ما يظهر في مرفأ “لابوان باجو” ، حيث تتقاطع القوارب الخشبية القديمة مع اليخوت الحديثة، في مشهد يعكس جدلية الثابت والمتحول، حيث لا شيء يبقى على حاله، بل يعاد تشكيله وفق إيقاع العبور المستمر بين الماضي والمستقبل.
لا يزال بعض الصيادين ينطلقون في الصباح الباكر بحثًا عن رزق البحر، بينما تستعد القوارب السياحية لحمل المسافرين نحو الجزر القريبة، وكأن المرفأ ليس مجرد نقطة انطلاق، بل مساحة يتحاور فيها الزمن مع ذاته.
هذا الانسجام بين الأزمنة ينعكس أيضًا في معمار المدينة. لم تُبنَ الفنادق كأجسام غريبة عن المكان، بل جاءت كمحاولات لإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة. فندق “تاأكتانا“ التابع لسلسة ماريوت، بإطلالاته البانورامية، يعكس فكرة أن البحر ليس مجرد منظر، بل جزء من التجربة، حيث يصبح الأفق امتدادًا لحالة من التحرر والانفتاح.
أما فندق “لوكال كولكشن“، فبتصميمه المستوحى من الطراز المتوسطي، حيث تمتزج الواجهات البيضاء بالأقواس والتراسات المفتوحة، يمنح تجربة تعكس كيف يمكن للحداثة أن تتناغم مع البيئة دون أن تلغيها.
وعلى طول شارع “سوكارنو هاتا“، تنتشر الفنادق الصغيرة التي تمنح الرحالة والمغامرين فرصة للانغماس في تجربة المكان، وكأن المدينة نفسها تقدم لكل زائر نسخة من الحكاية تناسب بحثه عن الفخامة أو المغامرة أو الهدوء.
في “لا سيسيل” المقهى والمطعم الجبلي، لا يكون المشهد مجرد إطلالة على البحر، بل نافذة للتأمل، حيث يشعر الجالس هناك أن الزمن نفسه يتباطأ، وكأن المشهد الخارجي ليس سوى انعكاس للتحولات الداخلية التي يعيشها كل زائر يبحث عن معنى جديد.
أما “ميماموري” فهو أكثر من مجرد مقهى، بل نقطة التقاء بين الثقافات، حيث تختلط حكايات السكان المحليين بقصص المسافرين العابرين. وفي محل الإيسكريم الشهير “ميسون بلمونت“ حتى المثلجات تصبح تجربة، حيث تروي النكهات المحلية حكايات البحر والجبال، وكأن كل طعم هو استكشاف لجانب آخر من روح الجزيرة.
مدينة تحاور الأفق
في “لابوان باجو“، يصبح الزمن تجربة حيّة، حيث يتقاطع الماضي بالحاضر في حوار لا ينتهي، لا كتصادم بين حقبتين، بل كإيقاع متواصل يعيد تشكيل المكان والإنسان معًا. فالمدينة لا تسكن الماضي، لكنها تحمله معها، ولا تذوب في المستقبل، لكنها تستعد له، وكأنها تولد من جديد مع كل موجة تمر بساحلها، مع كل قارب يعبر مرفأها، مع كل خطوة يخطوها زائر على أرضها. إنها وجهة للعابرين، للمغامرين، لأولئك الذين يرون في البحر أكثر من مجرد ماء، وفي الجبال أكثر من تضاريس. هنا، الأفق ليس حدًا، بل بداية لاحتمالات لا تنتهي، حيث تحاور “لابوان باجو” الزمن، بثقة وحرية، متجاوزةً التعريفات الثابتة، وصانعةً هويتها الخاصة بين الثابت والمتحول.