يوميات الرحلة الإندونيسية (١)
ثلاثة أصغرهم أظرفهم !!
ودعوا الوالدين وانطلقوا .. يقودهم الشاب الودود فواز في طريقهم إلى المطار الدولي بجدة ..
كانوا ثلاثة إخوة : شقيقان وأخ لأب ؛ ولكنهم كانوا في شعور الأخوة فيما بينهم سواءً ، كأنهم لم يولدوا إلا من أب وأم واحدة ..
وكانوا شركاء طفولة في بيت واحد ، وزملاء دراسة في مدرسة واحدة ، وقرناء تحفيظ في حلقة مشتركة (رحمة الله الواسعة على روح من حفّظهم فيها : معلمهم الطيب النبيل الأستاذ نذير ، غفر الله له ورحمه وآواه عنده في أكرم منزلة) ، وكانوا أنداد لهو ولعب في مسارح الطفولة وملاعبها الكثيرة المتعددة ..
أي طفولة طاهرة عاشوها ، وأي براءة نقية حظوا بها !
يلعبون معا ويمرحون ، يلهون سواسية ويعبثون .. إلى حين وصولهم سن البلوغ ، فيحجون معا حجتهم الأولى ، حجة الإسلام التي يصر كل أب روهنجي على اعتبار نفسه مسؤولا عن أداء ابنه لها بصحبته وإشرافه إذا استطاع ، او تحت ظل رعايته إذا تعذر.
وتمر الأيام وتنقضي السنين ، وتتصرف الحياة في بنيها كعادتها معهم دائما ، وتأخذ كلا منهم إلى جهة من جهاتها ، بعيدا عن الآخر ، تدفعهم المصالح ، وتشدهم الحوائج والمطالب ولا مفر ، وإذا الإخوة الثلاثة المتباعدون عن بعضهم يجتمعون ويتلاقون من جديد بعد أكثر من عشرين عاما من التنائي ، على متن طائرة ماليزية ، يقتعدون منها مقاعد متجاورة بل متلاصقة ؛ كأن لم يكن بينهم فراق طويل طويل ، وإذا الطفولة البريئة وأيامها الطاهرة السعيدة تعود ماثلة إلى أذهانهم بكل جنوح وعنفوان ، تلطفه الروح الأخوية المليئة بوافر التحنان ! ما أصغر الدنيا وما أسرع مرور الأيام فيها !
فأما أكبرهم فذلك الحازم الودود الذي تلوح نظرة التصميم في محياه : إن طمح لشيء رغب فيه فسعى له وصمم عليه وحققه ، وتلوح بوادر القيادة في سلوكه منذ الصغر : كلما كان بين مجموعة وجد نفسه يبادر ويتقدم ، فإذا هم يتبعون وينقادون ..
وأما أصغرهم فذلك الضحوك البشوش العابث اللاهي ، لا انتهاء لعبثه ، ولا انقضاء للهوه ، كأنما حلاوة العيش عنده أن لا يصمت عن الكلام أبدا أيا كان نوع الكلام وموضوعه ، وأن لا يمتنع عن الضحك والإضحاك أبدا أيا كان سبب هذا الإضحاك ، وأن لا يتوقف عن الطلب لحظة أيا كان نوع المطلوب طعاما كان أو شرابا ، وكلما مرت به مضيفة من المضيفات في الطائرة لم تستطع أن تجاوزه حتى تعطيه طعاما أو تسلمه شرابا وهو يقول لها بكل ود ونعومة ممطوطة منغمة :
– تريما كاسي !
لترد عليه المضيفة بكل حفاوة وسرور :
– سامآ سامآ ..
وربما سمعت المضيفة منه شيئا آخر ، فيتورد خداها خجلا وتنصرف باسمة ولا ترد ! ماذا قلت لها يا ظريف؟
وأما أوسطهم فذلك الذي يبيت في الطائرة إلى جوارهما ساهرا يغالب نعاسه ليقرأ في رحلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله إلى إندونيسيا قبل أكثر من ستين عاما ، وما كاد يسفر عليه الصبح الماليزي الباسم حتى فرغ من كتابة يوميته الأولى حول رحلة الإخوة الثلاثة إلى إندونيسيا مرورا بعاصمة ماليزيا كوالالمبور ، عازما على السير في يومياته يوما بعد يوم ، متتبعا مجريات الرحلة وتنقلاتها بين المدن الإندونيسية الساحرة :
– أعزاءنا المسافرين : أهلا بكم في كوالالمبور !
يولد الإخوة وينشأون في بيت واحد ، ويتلقون تربية مشتركة لا تختلف سماتها الأساسية وركائزها الأولية ؛ ومع ذلك فإن نتائج التربية المشتركة والتنشئة الواحدة كثيرا ما تختلف وتتنوع بتنوع مصائر الإخوة واهتماماتهم واختلاف شخصياتهم وتوجهاتهم التي تظهر عليهم منذ سنواتهم الأولى ..
لمن الكلمة إذن : للبيئة والتربية أم للجينات والوراثة؟
يهبط الإخوة الثلاثة إلى مطار كوالالمبور ، مطار رائع فخم على أرفع الطرز المعمارية وأحدثها ولكن ليس ينقصه إلا وجود المسافرين ، ويكاد أن يكون خاليا من البشر .. ما السر؟
أمامنا عدة ساعات قبل أن يحين موعد رحلتنا إلى إندونيسيا .. كيف وفيم نقضيها؟ ماذا نفعل خلالها؟ كيف يمكننا أن نقضيها سراعا كي نبرد أشواقنا الحرى إلى إندونيسيا؟ ولكن لماذا إندونيسيا؟ ما علاقتنا بها؟ ماذا نعرف عنها؟ كيف هي وشعبها؟ كيف سيكون لقاؤنا بها؟ هل ستحتفي بنا؟ هل ستعجبنا؟ هل سنصبح أصدقاء ؟ هل ستحبنا ونحبها؟ هل سنألفها وتألفنا؟ هل سيكون بيننا حب متبادل وألفة متناقلة؟ هل سنسعد فيها بها وبشعبها؟ هل سيسعدون بإقامتنا فيها وزيارتنا لشعبها؟ كيف هو شعبها؟ بماذا يتميز عن غيره من الشعوب الأخرى؟ ما تاريخ هذا الشعب؟ ما خصائصه وصفاته؟ ما أمجاده وأيامه العظيمة؟ ما واقعه وحاضره؟ ما مستقبله وأيامه القادمة؟
هل سأجد أجوبة كافية لأسئلتي الحيرى خلال رحلتنا القصيرة هذه لإندونيسيا؟ آه متى يحين موعد رحلتنا يا رب؟ متى ستكتحل عيناي وتبتهج روحي برؤية هذه الحسناء الفاتنة الوادعة كما سمعت عنها؟