فلوريس: تحولات الطبيعية في “كيلي موتو” (6/9)
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
لا يبدأ المكان من حدود مرئية، ولا ينتهي عند شاطئ أو جبل، بل يتشكل كما لو كان فكرة في حالة مستمرة من الولادة. هنا في جزيرة “فلوريس” الاندونيسية، تتراقص الطبيعة في إيقاع لا يخضع لزمن، فالألوان ليست مجرد ظلال على سطح الأشياء، بل كائنات حية تتغير مع نبض الأرض. الريح تهمس للوديان، الشمس تنثر ضوءها فوق القمم، والماء يعيد رسم ملامح الصخور، كأن العالم بأسره في حوار أبدي مع ذاته، لا يكرر نفسه، بل يكتب لحظة جديدة مع كل إشراقة.
في قلب هذا الامتداد، ينتصب جبل “كيلي موتو” كحارس على أسرار الكون، يحتضن ثلاث بحيرات لا تعرف الثبات، تتبدل ألوانها كما لو كانت تتنفس مع إيقاع الزمن. الأزرق، الأخضر، الأحمر، تنبض المياه بصمت، كأنها تعكس أحلام الأرض أو تترجم مزاج الكون. هذا التحول ليس مجرد ظاهرة، بل درس بصري في جوهر الوجود: لا شيء يبقى، كل شيء يتحرك، ينزلق، يتغير، كأن الحقيقة الوحيدة هنا هي التبدل المستمر.
بين العلم والفلسفة
عند الوقوف على قمة “كيلي موتو” ، حيث تمتد البحيرات الثلاث تحت السماء المفتوحة، يجد الإنسان نفسه أمام لوحة متحركة، تتغير ألوانها وفق إيقاع زمني غير منتظم. في بعض الأيام، تكتسي المياه بلون أزرق عميق يوحي بالهدوء والسكينة، ثم تتحول إلى الأخضر الزمردي الذي ينبض بالحياة، وأحيانًا إلى الأحمر الداكن أو الأسود الغامض، وكأنها تمر بمراحل تشبه أطوار النفس البشرية.
تفسّر الدراسات العلمية هذا التغير المستمر بأنه نتيجة للتفاعلات الكيميائية بين المعادن المذابة في المياه والغازات البركانية المنبعثة من الجبل. ومع ذلك، فإن هذا التفسير العلمي لا يقلل من البعد الفلسفي لهذه الظاهرة، بل على العكس، يضفي عليها مزيدًا من العمق. فالطبيعة، كما يراها الإنسان، ليست مجرد ظواهر فيزيائية يمكن قياسها، بل هي انعكاس لتجربته الخاصة، لتقلباته الداخلية، ولإدراكه الذي يتغير مع كل لحظة تأمل.
الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي، أحد أبرز مفكري فلسفة الإدراك، كان يرى أن “الإدراك ليس مجرد عملية عقلية، بل تجربة متجسدة، حيث يتفاعل الإنسان مع العالم من حوله بشكل غير مباشر”. وهذه الفكرة تتجلى بوضوح في تجربة الوقوف أمام بحيرات “كيلي موتو”، حيث لا يمكن للزائر أن يكون مجرد مشاهد سلبي، بل يجد نفسه مندمجًا مع هذا المشهد، يتأمله بحواسه، ويدرك عبره أن التغير ليس حالة عابرة، بل هو جوهر الوجود نفسه.
اكتشاف وحماية التوازن
للوصول إلى هذه التجربة الفريدة، يبدأ الزوار رحلتهم من بلدة موني، وهي أقرب نقطة إلى الجبل. من هناك، يمكن استئجار دراجة نارية أو سيارة خاصة للوصول إلى مدخل منتزه “كيلي موتو” الوطني. وما إن يصل الزائر إلى نقطة الانطلاق، تبدأ رحلة المشي لمسافة تستغرق 45 دقيقة وسط مناظر طبيعية مهيبة، يتغير ضوؤها مع تقدم النهار، تمامًا كما تتغير البحيرات مع مرور الزمن. الصعود إلى القمة عند الفجر هو التجربة الأكثر سحرًا، حيث تشرق الشمس على سطح المياه، فتظهر الألوان وكأنها جزء من عرض كوني يتكرر كل يوم في ثوب جديد.
وشهد جبل “كيلي موتو” في السنوات الأخيرة تزايدًا في أعداد الزوار، حيث ارتفعت نسبة السياحة إلى جزيرة فلوريس، مما دفع الحكومة الإندونيسية إلى تبني إجراءات للحفاظ على هذا المعلم الفريد من التأثيرات البيئية السلبية. فمع كل خطوة يخطوها الإنسان في قلب الطبيعة، يبقى السؤال: كيف نوازن بين الرغبة في الاكتشاف والحاجة إلى الحماية؟
هنا، يدرك الزائر أن الجمال ليس مجرد شيء يُشاهد، بل هو مسؤولية يجب الحفاظ عليها. فكل حضور بشري، مهما بدا بسيطًا، يترك أثرًا، تمامًا كما أن كل موجة ريح تمر فوق سطح البحيرات تغيّر من تكوينها ولو بشكل طفيف. العلاقة بين الإنسان والطبيعة ليست علاقة سيطرة أو استغلال، بل هي شراكة، حيث يصبح الإدراك البيئي جزءًا أساسيًا من التجربة.
تجلّيات التغيير الأزلي
ومع اقتراب لحظة الشروق، حين يبدأ الضوء الذهبي في الانعكاس على سطح المياه، يدرك المرء أن هذه البحيرات المتغيرة ليست مجرد مشهد طبيعي، بل هي درسٌ في فلسفة الحياة نفسها. فلا شيء يبقى على حاله، وكل لحظة تحمل في طياتها ولادة جديدة، ولونًا مختلفًا، ومعنى متجددًا. وكما تتغير البحيرات في صمتها العميق، فإن الإنسان أيضًا يتغير، ينضج، يرى العالم بعيون جديدة، ويعيد اكتشاف ذاته في كل رحلة، وفي كل مغامرة، وفي كل لحظة تأمل.