من غزة إلى الأرخبيل: هل ترضخ إندونيسيا لاستعمار جديد؟
عبدالله بوقس
صحفي وكاتب، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور
من غزة إلى إندونيسيا، تقفز الفكرة كجرحٍ مفتوح في ضمير الإنسانية، وتتحرك كسهم طائش في مشهد سياسي معقّد يحمل أثقال الظلم والاستعمار الجديد. بين مأساة الحصار الإسرائيلي لغزة وتاريخ الصمود الفلسطيني، تأتي تصريحات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول نقل سكان غزة إلى دول منها إندونيسيا كحلمٍ مشوّهٍ يفتقد للعدالة الإنسانية ويخرق القوانين الدولية. ولكن هل يمكن لإندونيسيا، التي طالما فتحت أبوابها لضحايا الاحتلال من المرضى والجرحى، أن ترضخ لهذه الخطة؟ وما هو موقعها من هذه الطروحات التي تسعى لإعادة إنتاج التهجير القسري؟
رمز الإنسانية والثبات الدائم
إندونيسيا ليست مجرد دولة في الأرخبيل الآسيوي، بل تمثل رمزًا للثقل الإنساني والسياسي في العالم الإسلامي، بصفتها أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، وواحدة من أكثر الدول التزامًا بمناصرة القضية الفلسطينية.
عندما كانت غزة تحت نيران العدوان الإسرائيلي في مراتٍ عديدة، برزت إندونيسيا في المشهد الدولي بمواقفها الثابتة، حيث استقبلت مرضى وجرحى الحرب، وقدمت مساعدات إنسانية وإغاثية في إطار دعمها المستمر.
هذا الامتداد الإنساني لم يكن فقط تعبيرًا عن التضامن، بل إشارة إلى الروابط العميقة بين إندونيسيا وفلسطين، والتي تُذكّر بالعلاقات الوثيقة التي تربط إندونيسيا بدول الطوق العربي، خاصة الأردن ومصر، في دعم القضية الفلسطينية.
إلا أن طرح ترامب بنقل سكان غزة إلى إندونيسيا ينقل النقاش إلى مستوى أعمق من السياسة الواقعية، ليصبح اختبارًا لمبادئ السيادة الوطنية.
هذا الطرح الترامبي، الذي يأتي مغلّفًا بدعاوى إعادة الإعمار والبحث عن حلول إنسانية، يكشف في حقيقته عن استعلاء سياسي واستهداف مباشر لاستقرار الدول الآسيوية.
فمن منظور القانون الدولي، يُعتبر هذا الاقتراح خرقًا لحقوق الإنسان وتهديدًا لحق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. التهجير القسري هو جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، كما أن هذا السيناريو يتنافى مع التزامات الأمم المتحدة تجاه اللاجئين الفلسطينيين بموجب القرار 194، الذي ينص على حق العودة.
السيادة ليست للمساومة
السيادة الوطنية، التي هي حجر الأساس في العلاقات الدولية، تصبح في مثل هذه الطروحات مادةً للعبث والمساومة. ومحاولة فرض مثل هذا الحل على إندونيسيا تعكس استهانة واضحة بقدرتها على الدفاع عن سيادتها، وهو أمر يحمل في طياته تجاهلًا لتاريخها السياسي الراسخ.
إندونيسيا، التي قادت معارك استقلالها ضد الاستعمار الهولندي، تُدرك تمامًا معنى الكفاح من أجل الأرض والهوية، وبالتالي لن تكون لقمةً سائغةً في يد القوى الكبرى التي تحاول تطويع الدول المستقلة لمصالحها.
إنّ الرؤية التي يطرحها ترامب ليست سوى انعكاس لسياسات استعمارية جديدة، تحاول أن تُعيد تشكيل الجغرافيا البشرية والسياسية وفقًا لأجندات الهيمنة.
ولكن هنا يظهر سؤالٌ محوري: هل تدرك هذه السياسات أن نقل سكان غزة لن يحل المشكلة، بل سينقلها إلى مكان آخر؟ فالأزمة ليست أزمة مكان، بل أزمة حقوق وعدالة.
وبعيدًا عن البُعد الأخلاقي، فإن مثل هذه الخطة ستواجه تحديات عملية هائلة. استقبال ملايين السكان يتطلب موارد اقتصادية ضخمة، وبنية تحتية قادرة على استيعابهم، وهو ما لا يمكن لإندونيسيا، رغم قوتها، أن تتحمله بسهولة.
دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تشير إلى أن نسبة كبيرة من اللاجئين في العالم يعانون من نقص في الخدمات الأساسية، حتى في ظل الدعم الدولي. فكيف يمكن لدولة واحدة أن تتحمل عبء ملايين الفلسطينيين في ظل ظروف عالمية مضطربة؟ هذه الأسئلة تجعل من خطة ترامب أقرب إلى الوهم منها إلى الحل الواقعي.
وعلى الرغم من أن إندونيسيا قد أظهرت استعدادًا في الماضي لاستقبال المرضى والجرحى الفلسطينيين كجزء من التزامها الإنساني، إلا أن قبولها بمخططٍ كهذا يعني التضحية بمبادئها في دعم حق العودة، والتخلي عن دورها كمدافعٍ عن القضية الفلسطينية. كما أن هذا الاقتراح قد يضع إندونيسيا في مواجهة مع شعوبها، التي ترى في فلسطين قضيةً مركزية غير قابلة للتفاوض.
سطحية ترامب واستعلاء الهيمنة
ترامب، الذي اشتهر بتصريحاته المثيرة للجدل، يعكس في هذا الاقتراح نظرته السطحية تجاه الدول الآسيوية، والتي تبدو بالنسبة له مجرد مساحات جغرافية يمكن استغلالها لاحتواء مشاكله السياسية. هذه النظرة تعكس استعلاءً ثقافيًا واضحًا، يفتقر إلى الاحترام للتنوع السياسي والاجتماعي لهذه الدول.
لكن إندونيسيا ليست مجرد لاعبٍ صغير في المسرح السياسي الدولي. قوتها الناعمة في العالم الإسلامي، ودورها في دعم القضايا الإنسانية، يجعلها قادرةً على رفض هذه الطروحات بحزم، والوقوف إلى جانب القانون الدولي الذي يحمي حقوق الشعوب.
في نهاية المطاف، القضية الفلسطينية لا يمكن اختزالها بحلول سطحية أو ممارسات تهجير قسري. الحل الوحيد يكمن في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق العدالة للفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في العودة إلى أراضيهم.
إندونيسيا، التي تمثل صوتًا قويًا في العالم الإسلامي، تعرف ذلك جيدًا، ولن تنجرف وراء سياسات الهيمنة التي يسعى ترامب لفرضها.
بهذا الموقف، تثبت إندونيسيا أن السيادة الوطنية ليست مجرد شعار، بل مسؤولية تاريخية تجاه الشعوب المظلومة، وتذكّر العالم أن العدل ليس قضية يمكن تهريبها، بل هو واجبٌ على الإنسانية بأسرها.