القصة الفائزة بالمركز الرابع في مسابقة كتابة القصة القصيرة التي نظمتها إندونيسيا اليوم
الكاتبة: ألاء فواز بني بكر
صباحٌ جديد، ككل الصباحات الخريفية التي تغطي قرية الغصن الأخضر، النائمة على ضفاف الجبل الكبير. كانت تلك القرية معروفة بمحاسن الأخلاق وقد كانت خضراء تماماً كاسمها وتزدهر بطيبة ساكنيها.
مالت الأغصان مع نسيم الريح نحو نافذة أحد بيوتها وأفرغت أوراقها الذابلة في غرفة عامر الذي استيقظ من غفوته وفي يده كراس مذكراته. أغلقه مسرعاً ومضى نحو السلالم، فقد حان وقت الإفطار بتوقيت بيت أبو حسام المزارع البسيط.
جلس عامر بجوار فارس وحسام، جلبت أمهم الخبز الساخن وحطت بجانب زوجها أصيل بخفة.
تناول الجميع طعامهم، ثم جاء وقت خطاب الوالد اليومي قبل الإنطلاق إلى أعمالهم.
“يا أبنائي قد اخترت لكم من الأسماء أحسنها، وأرجو الله أن يكون لكل منكم من اسمه نصيباً”، بدأ فارس يتمتم خلف والده ساخراً بصوت خافت: اعملوا بجد، واغتنموا الوقت، وكونوا النور لمن حولكم مهما اشتد ظلام القلوب، انثروا ما حصدتم من علمكم، ليغتنم منه الناس، وانشروا فضائل الأخلاق وأحسنها، الصدق ينجي، والحب يغني، والعدل يحمي، والوفاء يُفضي إلى الأمان”.
قال فارس لحسام ضاحكاً: “لقد حفظناها ظهراً عن قلب” رمقه عامر وقال: “المهم أن تحفظها في قلبك لا في عقلك”.
ما إن انتهى والدهم من كلامه، أذن لهم فانطلقوا إلى أعمالهم.
خرج الثلاثة وكان آخرهم فارس فصفق الباب خلفه بقوة. ابتسم الوالد لزوجته يائساً وقد نال منه المرض.
وأمام عتبة الباب حيث تُكشف كل الدروب سقطت إحدى بتلات زهرة الكاميليا.
مرت أشهر، توفي والد الشبان الثلاثة وقد ترك لهم وصيته المعهودة، بيتهم الدافئ، وحقلاً صغيراً.
ظلّ الأبناء بعملون سوياً حتى تمكن الظلام من التسلل بينهم، ففي يوم ما رجع حسام ولم يفلح في بيع حصته من الثمار، مما أغضب فارساً فقال ما كان يجول بخاطره منذ مدة، وكأنه انتهز فرصة ثمينة “هذا لن ينفع، لنقسم ما تركه والدنا، وليستقل كل منا عن الآخر إلى متى سنظل كحبات عقد واحد إذا سقط أحدنا سقطنا جميعنا؟!”
قال عامر: “أليس هذا مفهوم الأخوّة؟” صمت لبرهة والآخران يرقبانه بغرابة، وأمسك سبحته بيده ورفعها نحو الشمس التي تمد رأسها بجانب الجبل وأكمل: “أوليست هذه وصية والدنا وما تربينا عليه؟!” قهقه فارس بسخرية وجلس على الأرض، ثم قال: “أوحقاً كنت تسمع تلك الكلمات؟! لقد حفظناها لسنوات وعملنا بها طويلاً ماذا جنينا بها سوى الكلام؟ ماذا نمسك بأيدينا؟ لا أرى سوى الخسارات المتتالية، لذلك استعدا لقد قررت أن أثور على صف الكلام، وأبدأ العمل بذكاء، وأول ما سأفعله سأقسم كل شيء وليذهب كل منا في طريقه”.
“وهذا أفضل للجميع” قال حسام.
عاد عامر إلى المنزل، وجد والدته تحيك سترة خضراء، حياها، فسألته ما الخطب؟ قال وقد اشتدت يده على سبحته بغضب: “سيقسمان كل شيء” سُمع صوت الرعد مدوياً، بكت السماء كما بكت والدته يمامة، وعند العتبة سقطت بتلة أخرى من زهرة الكاميليا.
أخذ حسام نصف الحقل وأخذ فارس نصفه الآخر، تركا البيت لعامر الذي رضي به بدوره مع حصان والده وعربته الصغيرة، فقد خشي عامر على أمه أن تتركها قسوة أخويه بلا مأوى.
في أحد الأيام خرج عامر من البيت التفت للزهرة الراسخة في الأرض، وكأنه يراها لأول مرة، لقد بهت لونها، وتناثرت بتلاتها من حولها كلآلئ ثمينة، نظر باستغراب ثم تابع طريقه نحو الجبل.
أمضى عامر أياماً في الجبل ينظر إلى قريته من الأعلى، كانت تبدو كأنما ظلاً قاتماً يغطيها، فقد تفشى الكذب والغش والخداع بين الناس، وطمس الطمع قلوبهم، لم تكن قريتهم كذلك لقد كانت يوماً منتعشة كزهر الرمان، شامخة كالزيتون الأخضر.
صار فارس وحسام من كبار القرية وقد جنيا الكثير من الأموال كما كانا يتمنيان تماماً، لكنهما افتقدا كل ما تركه لهما والدهما من خصال حسنة ونسيا تماماً وصيته الفاضلة.
أما عامر فقد كان يعمل في إيصال السكان بين القرى بواسطة عربة والده وحصانه وهو يحمل وصية والده في قلبه ويراعي الصغير ويحترم الكبير وكان محبوباً بين الناس.
عاد عامر يوماً ما من سفر عمل طويل فوجد بيته قاتماً، لا دخان مدفأة يعلوه، ولا دعوات أمه تستقبله، فهمّ ليدخل قبل أن يناديه جاره: “لقد عدت أخيراً يا عامر” قال بنبرة يعلوها الحزن:
“لقد أتى أخوك حسام منذ شهر وأخذ والدتك” دهش عامر وقبل أن يتفوه بأي سؤال خرج شاب غريب من المنزل وأقفله خلفه بمفتاح ووضعه في جيبه.
كاد عامر أن يفقد عقله وصرخ قائلاً: “من أنت ما الذي تفعله في منزلي؟”
قال الشاب: “هذا منزلي لقد استأجرته مؤخراً، من أنت؟”
تجمد عامر مكانه ولم يحرك ساكناً حتى أن جاره سحبه بخفة إلى بيته، أجلسه إلى جانب المدفأة، ومد إليه سترة خضراء وقال: “لقد تركت أمك لك هذا” لحق الشاب بهما وقال: “المعذرة لقد وصلت رسالة من دار المسنين منذ أسبوعين، أظنها للمالك القديم، أرجو أن تعطياه اياها فالسيد فارس قال أنها لا تعنيه”.
“دار المسنين؟!” نظر عامر إلى الجار وأخذ الرسالة بيد مرتعشة كانت الصورة تترتب شيئاً فشيئاً في عقله، كان يخشى أن يفهم أن ما يدور في عقله صحيحاً، كانت دموع الجار وايمائاته كفيلة بأن تنفي أي فكرة أخرى، لقد استغل أخواه غيابه وتركا أمهما المضحية الصبورة في دار المسنين للوحدة والألم، فتح عامر الرسالة بأنامل خائفة قرأها ثم سقطت من يده، نعم لقد ماتت اليمامة طارت بعيداً وتركته يتيماً من جديد.
احتضن عامر السترة، خرج إلى عتبة منزله القديم وأخذ يبكي بشدة كأنه يفرغ قلبه من حمل ثقيل، بكى كالصغار، وسقطت مجدداً جميع بتلات الكاميليا.
التفت عامر إليها، جمع كل البتلات المتناثرة، لفها بسترته الخضراء، آخر ما تبقى له، ومضى.
أمام منزلا حسام وفارس الكبيرين، وقف عامر بكل غضبه، يصيح بأعلى صوته: “حسااام، فااارس”
“يا أبنائي قد اخترت لكم من الأسماء أحسنها وأرجو الله أن يكون لكل منكم من اسمه نصيباً”.
أخذ يعلو صوته أكثر حتى خرج أخواه كل من نافذة منزله:
“ما الذي أتى به؟” قال حسام،
“اعملوا بجد واغتنموا الوقت وكونوا النور لمن حولكم مهما اشتد ظلام القلوب”
“ما الذي يفعله هذا المجنون؟!” قال فارس.
“انثروا ما حصدتم من علمكم ليغتنم منه الناس، وانشروا فضائل الأخلاق وأحسنها، الصدق ينجي، والحب يغني، والعدل يحمي، والوفاء يُفضي إلى الأمان” استمر عامر.
تجمع الناس، وخاف حسام وفارس من الفضيحة فخرجا إليه “ماذا تظن نفسك فاعلاً؟!” قال فارس بينما أشاح حسام بعينه نحو الأرض.
“لقد..” تلعثم عامر قليلاً واغرورقت عيناه بالدموع،
“لقد ماتت أمنا، رحلت اليمامة! بسببكما!” صرخ فجأة ووجه لكمة لكل منهما على وجهه، بكى الناس من حوله لبكاءه، ارتدى كبرياءه ثم مضى نحو الجبل.
مرت الأيام وظِل ذلك الجبل يبدو قاتماً، وبدا غصن القرية ذابلاً، وبهت لونها كأنها تعكس قلوب ساكنيها.
بعد سنوات وقف صافي أمام منزل جده أصيل يتأمل مكان الزهرة المتيبسة والذابلة ويمسك بين يديه وصية والده الراحل عامر “احفر بجانب الزهرة” حفر صافي كما كتب في الوصية حتى عثر على كراس ذكريات والده. اصعد الجبل واجلس عند عينه وقت الغروب”.
فعل صافي وصعد الجبل، ولكن كيف سيجد عين الجبل؟ وقف حائراً عند أعلى قمة، التفت خلفه فوجد أن الشمس ستنزل بعد قليل، التفت أمامه فوجد غصن شجرة ملتف حول نفسه مشكلاً حلقة صغيرة على شكل لوزي يشبه العين.
انتظر حتى نزلت الشمس فوجد أن شعاعها يخترق الحلقة ويصب نفسه في قلب قريتهم الذابلة.
صاح: “فهمت هذه عين الجبل، يعبرها النور لكن لماذا لا تزال قريتنا مظلمة”.
الوصية الثالثة: “افتح الكراس” فتح صافي الكراس فذهل لما وجد!
كان الكراس يمتلئ ببتلات الكاميليا وقد نقش على كل منها كلمات بلون الذهب،
“الصدق.. المحبة.. الصفاء.. العفو.. الإخلاص.. العطاء” ابتسم صافي وهبت نسمة دافئة نحو القرية فبعثرت البتلات باتجاهها، وأخذت البتلات تتساقط على القرية، تتلألأ تحت ضوء الشمس في مشهد خلاب، وقرية الغصن الأخضر تحيا وتحيا وتنتعش من جديد وصافي يقرأ كلمات والده بسعادة.
لقد كنا نذبل مع كل خصلة سوداء تنغرس بيننا، لقد تساقطت أزهار الكاميليا واحدة تلو الأخرى على مرآي، فكنت أجمعها وأجمع وصية جدك ووصيتي هذه إليك يا ولدي.
مهما طال الظلام واشتد الخناق على الصالحين فإن ما يُغرس من خصال حميدة في القلوب باقٍ فينا كبقاء الشمس، وبقاء النور، وبقاء كل شيء أخضر.. عامر.
———————–
الاسم: آلاء فواز بني بكر
مكان الاقامة: الأردن.. إربد