indonesiaalyoum.com
إندونيسيا اليوم

حياة الأرضة

0 205

القصة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة كتابة القصة القصيرة التي نظمتها إندونيسيا اليوم

 

الكاتبة: حسناء فاطمة

يحكى أنّه في غابة مطيرة كان هناك تلّ صغير، هذا التلّ هو منزل لأكثر من ألفي نفس. كان المنزل بسيطَ المظهر من الخارج، وإذا دخلتموه ستجدون فيه طبقات كثيرة وأنفاقا معقَّدة. كانت تسكن فيه مستعمرة الأرضة أو سمّوها بالنمل الأبيض إن شئتم. هذه المستعمرة تدعى “مملكة تِيرْمِيدِيَا”. أمّرت عليها ملكة الأرضة تدعى “بلات”. كانت الملكة حكيمة وعادلة، وكان أفراد الأرَض يعيشون في فرح ونظام. كل منهم يؤدي واجبه الخاص؛ الجنود الذين لديهم فكوك قوية ومسننة يحرسون المملكة. وبينما يضمنون الأمان للسكان، يجلب العمال الطعام و يغذّون جميع الأفراد ويرعون الحضنة. وهكذا، كل يوم تطلع فيه الشمس وهم في عمل دؤوب.

كان من بين أولئك العمّال نمل أبيض شابّ نشيط. كان هذا الشابّ رحبَ الصدر ومنتظم الشأن وهو من جنس الأرَض المحبّين للهدوء والسلام ولا يفعل أو يقول شيئا يجذب انتباه الآخرين. كان يحبّ عمله حبّا جمّا. ولانشغاله بالعمل فلا غرو في أنّ أقدامه ما وطأت على أرض خارجَ نطاق المملكة ولو للحظة، إنّه حقًّا يؤثر الحياة المريحة والمرتّبة على كلّ شيء. كان اسم هذا الشابّ (تيرا).

وفي صباح أحد الأيّام الربيعيّة منذ آلاف من السنين مضت من زمننا، تصادف أنّ (تيرا) كان يستعدّ لاستقبال الملكة علمًا بأنّ اليوم هو موعد الحفل لتقدير جهود العمّال وتكريم أنشَطِهم في العمل. تناول (تيرا) قسطًا من خشبة الصنوبر-وهو أحبّ الخشب إلى جميع الأرَض- وارتدى معطفه الأخضر ثمّ خرج من غرفته متبسّمًا عابرًا النفق الطويل متّجهًا إلى القاعة الكبرى وبدأ يغنّي وهو يمشي:

عملي أجمل الأعمال *** مهمّ لدى الأمثال

أجلب الرزق الحلال *** وأرعى كلّ الأطفال

ضئيل في الحجم، ولكنني *** قويّ الذراع كأقراني

نحافظ معا على اعتدال الميزان *** ميزان الطبيعة لا تحقرني

توقّف (تيرا) عن المشي والغناء لضجيج سمعه، وشعر أنّ الأرض حوله تهتزّ، فحدّث (تيرا) نفسه: “ما الذي يجري في الأعلى؟ هل الحفل بدأ وفاز أحد المتصارعين؟ (من عادة المملكة ابتداء الحفل بالمصارعة) يا للخسارة! عليّ الإسراع إذًا!”. فتسرّع وهرع، حتّى إذا وصل إلى الباب اندهش وارتعش.

– “تعال يا (تيرا)! اجرِ واخفض رأسك!” سمع (تيرا) صوتًا يناديه، وبدون تفكير ركض (تيرا) نحوه بأسرع ما أمكن.

صاحب الصوت هو سيّد (تاما). كان هو وعددٌ من الأرضة يتّقون بأنفسهم من الرماح والأحجار المتطايرة خلفَ عمود قربَ المخرج مستعّدين للهروب وهم جرحى.

– سأل (تيرا) وهو يلهث من العَدْو: “من هؤلاء يا سيّدي؟ لماذا قتلوا قومنا؟ ما الذي يبغون؟”

– أجاب (تاما) قائلًا: “ليس في هذه الحال يا (تيرا)، لننقذ أنفسَنا أوّلًا ونبحث عن المأمن”

فخرجا مع سبعة آخرين هم: (بود) و(تود) و(نوكا) و(سيرا) و(ديرا) و(دوري) و(تاري). هرولوا نحو الشمال ملتمسين للمأوى والأمان. لقد ساروا لساعة كاملة حتّى تيقّنوا أنّهم غير مدرَكين وحينها وجدوا حجرًا مثقوبًا بجوار النهر، احتموا فيه. وقبل الاسترسال في القصّة أعرّفكم بسيّد (تاما)، (تاما) هو أحد أكابر المملكة الأجلّاء وناصحي الملكة، طويل الباع في معرفة أنساب ملوك الأرضة والأحداث القديمة، كبير السنّ قويّ الذاكرة، ويعرف جميع أسماء الأرضة في المملكة، أحيائهم وموتاهم.

أجلس (تاما) (تيرا) وقال: “يا ولدي، هؤلاء هم جيش ملك (آتالون) من مملكة (آنتالا) مملكة النمل التي تقع على بعد 8 أميال من (تيرميديا). كانت بيننا وبينهم عداوة بالغة منذ أن أقاموا بجوارنا، قتلوا شعبنا وسرقوا بيضنا ليأكلوها”. خفض (تاما) رأسه أسفًا مُنهيًا الكلام.

– قال (تيرا) وفي وجهه ملامح حزن وغضب: “هل كانوا دائما منتصرين، وحظّنا الهزيمة يا (تاما)؟”

– قال (تاما): “لا يا عزيزي، بل كما قيل «الأيّام دُوَلٌ والحرب سجال»، فيوم لنا ويوم علينا. وكنّا قد أرسلنا رسولًا إليهم لمحاولة الصلح والسلم، ولكن بدون جدوى. ثمّ زاد الأمر تعقيدًا لمّا نظرنا فيما يحلّ بأرضنا من تغيّرات الطبيعة، فرأينا أنّه في آخر هذا الربيع لا بدّ لنا من الهجرة إلى مكان أكثر أمنًا وسلامة، لا لأنّنا ضعفاء صاغرون أمام النمل يا ولدي، ولكن الغابة تزداد رطوبة ومطرًا وعاصفة كلّ عام ممّا يوقعنا في خطر أعظم من كيد الأعداء لو بقينا. مشكلتنا أنّنا لم نعثر على مكان مناسب وكما ترى يا (تيرا) نحن الآن مجروحين لا نملك القوى، ولا يصلح بنا الانتظار الأكثر، فـ…”

– فقاطعه (تيرا) قائلًا: “فإذًا يا سيّدي أرسِلني إلى من تثق به في خبرته وأمانته لأسترشده في أمرنا هذا” سكت ملِيّا وقال: “ولكن يا سيّدي لستُ بأرَضة مغامر ولا رحّال، ولم أكن للسلاح حاملًا ولا لوادٍ قاطعًا وإنّي لأخشى ألّا أجد من الشّجاعة ما يكفي لمواصلة السير”.

– قال (تاما) بلطف: “عزيزي (تيرا)، الشجاعة كثيرا ما تجدها في أماكن غير مرغوبة فيها، وفي أوقات غير متوقّعة، لقد كنتُ مثلك في الشكّ بالنفس، وكلّ أحد منّا قد مرّ بتلك المرحلة أو سيمرّ بها، ولن نتخلّص منها حتّى نواجهها ثم لا نأخذ بعدها إلّا بالحزم. وإنّي رأيتُك يا ولدي تمتلك أشياء لم ترَها بعينك، فاعثر عليها؛ قم وهيّئ نفسك وتوكّل على الله!”.

سكت (تيرا) مطأطئًا الرأس ولم يرفعه حتّى تكلّم (بود) موجّهًا حديثه إليه:

– “هذا سيفي الأفضل، احمله معك في رحلتك! ربّما ستلتقي بعناكب أو عقارب تريد بك السوء.”

حان للشمس الغروب كما حان لـ(تيرا) الذهاب. وفي الوقت نفسه لم يُر في القصر المهجوم عليه إلّا المأساة؛ جثث القتلى هنا وهناك، بكاء النساء والأطفال يعلو الأنفاق، والأسوأ من ذلك هو أنّ ملكة (بلات) لم تكن موجودة في أيّ مكان في القصر! لقد فعل جيش (آنتالا) أبشعَ ممّا توقّعه أيّ أحد. أخذوا جميع الحضنة والبيض وأحرقوا حدائق الفطريات ذات الأهمّيّة. يا جمال البناء أين ذهب؟ ويا نور الوجوه أين غرب؟ قد مسّه ضرّ ولمسه كرب، ولحسن الحظّ ما لقي (تيرا) في طريقه ما منه هرب.

إنّه قد مضى يوم كامل منذ أن رحل (تيرا) متّجهًا إلى الشمال حيث يسكن (كرو) صاحب (تاما). كان غرابًا كثير الترحال يعرف جيّدا حال السهول والتلال وطرق الأودية والجبال. وصل (تيرا) إلى عشّ ذاك السيّد الغراب فسلّم عليه. رحّب به ترحيبا حارّا حتّى وإن كان أصلا لا يحبّ الضيف كثيرا. بيّن (تيرا) قصده وحال قومه وكلّ شيء حلّ بهم. فقال (كرو):

– “الأمر قد قضي وقدر، لقد وافقت هجرتكم أكبرَ هجرة في عالم الحشرات: حيث سينطلق بعد يومين آخِرُ مجموعة من الفراشة الملكيّة من غابة (كافتا) إلى الجنوب، وأنا على يقين في أنّهم يريدون حملكم معهم في رحلتهم الطويلة. فارجع صباح الغد ولتتجهّز أنت وبقيّة إخوتك وسأخبر زعيم الفراشات بقدومكم”. انشرح صدر (تيرا) بعد أن كان ضيّقا، ثمّ شكر (كرو) على توجيهه وبات عنده مطمئنّا.

وبينما سلك (تيرا) طريق العودة، قام (بود) ورفقاؤه الثلاثة إلى مملكة (آنتالا) لإنقاذ الملكة من يد الملك (آتالون). دخلوا متسلّلين عبر حفرة حفروه. وجدوا الملكة بدون حراسة فحاولوا الخروج معها عبر نفس النفق وكان (بود) آخرهم. وقبل أن يدخل (بود) النفق، صاح حارس النمل وراءه “توقّفْ! وإلا فلن تخرج وأنت حيّ أيّها الأرَض الشقيّ!” وبكلّ شجاعة استقبل (بود) نداء القتال، وأمر رفاقه بالذهاب من أجل سلامة الملكة، لكنّ أحدهما طلب من (بود) أن يتركه معه لمواجهة العدوّ، فأذن له. وجاء بعد ثوان حرّاس آخرون فحاموا حولهما وقتلوهما. موت (بود) تعدّ خسارة عظيمة للمملكة، إنّه جنديّ مخلص وشجاع.

وما زال من في القصر يتعاونون على إصلاح حالهم من تمريض الجرحى وجمع الطعام. لقد دخل أذى جيش (آتالون) كلّ نفق ومخزن. وما مرّ وقت طويل حتّى جاء (تيرا) حاملًا الأمل وجاء الثلاثة مع الملكة ومعهم خبر محزن وإنذار. لأن الملك (آتالون) لن يطلق سراح أسيره بكلّ سهولة. ولهذا، قرّرت الملكة مغادرة القصر على الفور دون تردّد وطول استعداد. وكان عددهم حينئذ ألف ومائة فرد.

شمس النهار تسطع حين وصلت المستعمرةُ الحدود القصوى من مملكة (تيرميديا). ساروا في خطّ مستقيم وكان (تاما) في المقدّمة و(تيرا) وراءه ثمّ يليه الجنود الأخيار حول الملكة. سوف يلتقون بالفراشات في أحد التلال قربَ غابة (كافتا) كما أمره (كرو). وكادوا لا يتوقّفون عن السير. وبعد يومين من المشي والجهد والعناء وصلوا في المكان الموعود. كلّمت الملكة (بلات) زعيم الفراشات ودار بينهما حوار قصير:

– فقالت: “سلام عليك، نحن محظوظون بأن نكون معكم في رحلتكم هذه المرّة. هل انتظرتمونا طويلًا؟”

– قال زعيم الفراشات: “وسلام عليك، كلّا، ما انتظرناكم طويلا، بل جئتم في الوقت المناسب، ونحن فرحون بصحبتك أنت وشعبك أيّتها الملكة. هل من شيء تحتاجينه؟ نحن في خدمتك، وإلّا فعلينا الرحيل على الفور”.

– أجابت الملكة قائلة: “في الحقيقة نحتاج إلى أن نجمع الزاد مرّة أخرى لأنّنا نخشى ألا نجد أثناء الطريق ما يسد جوعنا. لقد غادرنا المملكة مستعجلين خوفًا من الإدراك والإغارة.”

– قال رئيس الفراشات: “لكم ما تريدون وسنساعدكم عليه إن شاء الله”

فجمعوا الزاد ثمّ اجتمعوا من جديد، وتأكّد كلّ من الفريقين أن لا يتركوا أحدا. ومع هبوب الرياح انطلقوا؛ تحْمل كلّ فراشة أرضةً واحدة أو زادا؛ فإنّ عدد الفراشات أكثر من عدد الأرَض. هذه أوّل مرّة يرى (تيرا) الأرْض التي يعيش عليها من الجوّ. يمسح النسيم وجهه حين يجول في رأسه شأن غرفته المهجورة وأمر البيض المسروق وموت (بود) الشجاع. إنّ ذلك لضرب أوجع قلبه. ولا يزال مستغرقا في تفكيره حتّى صاح زعيم الفراشات: “راحة يا جماعة!”

الراحة تكون في الليل؛ إذا ما احمرتّ الشمس سعيًا للغروب، بحثوا عن شجرة كثيفة للمبيت عندها. وعلى هذه الطريقة استمرّت رحلتهم الطويلة. لا تظنّوا أنّهم لا يواجهون تحدّيات في الطريق، بل العكس: تهبّ الرياح بشدّة تارة وتمطر السماء تارة أخرى. يهاجمهم الضفدع في الليل تارة وتطاردهم الحمامة في النهار تارة أخرى. كلّ ذلك تسبّب في نقصان عددهم يوما بعد يوم. وحينها فهم (تيرا) أنّ الحياة تستوجب الفداء: قوّة أو وقتا أو مالا أو حتّى نفسا.

وأخيرا، بعد شهرين كاملين من الرحلة استعدّت الفراشات للهبوط في المكان المقصود. كان هذا المكان فسيحا مع وجود قليل من الأشجار وكثير من الأعشاب شبه اليابسة. وبعد أن نزلوا واستراحوا قليلًا، اجتمعوا لتوديع الفراشات، لأنّ هذا المكان ليس هو المكان الذي تقصده الفراشات. شكروا الفراشات على لطفهم وعونِهم الذي لن يضمحلّ ذكره إلى الأبد، وطار زعيم الفراشات وشعبه خلفه نحو الوادي المجاور ليأخذوا مكانهم المستقلّ.

استنشق (تيرا) الهواء الجافّ من حوله وشعر بالارتياح. “بلغت الرحلة منتهاها وحان الوقت للاستعداد لمشروع بناء القصر الجديد” حدّث (تيرا) نفسه. ولم ينتظر طويلا حتّى دُعى جميع العمّال إلى المشاورة مع الملكة. ونتيجة الشورى أنّه ليس من الحكمة أن يقيموا في مثل هذا الجوّ لزمن طويل إلّا إذا أرادوا الهلاك من شدّة الحر، فعليهم إذًا بناء قصر درجة حرارته مماثلة لتلك التي في الغابة المطيرة: وهي درجة الحرارة الباردة اليابسة.

– قال المهندس كبير العمّال: “يا معشر الأرَض! لتكييف درجة حرارة القصر حتّى تكون مثل التي في الغابة نحتاج إلى تشييد بناءٍ شديد الارتفاع يحتوي على العديد من الفجوات الهوائيّة. وعلينا أيضًا زراعة نوع خاصّ من الفطريات وصناعة مادّة جديدة للبناء”.

– قال أحد المجتمعين: “سيّدي المهندس، وكذلك نحتاج إلى نمط خاصّ لتشكيل شبابيك التبريد بحيث تظلّ رطوبة الغرفة مثاليّة، أليس كذلك؟”

– قال له المهندس: “بلى، وأحسنت قولا!  فهيّا بنا جميعا إلى العمل”.

ومهما كانت الخطط والطريقة التي ساروا عليها في البناء معقّدة ومجهولة بالنسبة لنا: مرّ كلّ شيء بسرعة وارتفع القصر عاليًا. لقد قدّم القصر الجديد كلّ ما احتاجوه، محقّقًا درجة حرارة الغابة المطيرة التي يألَفونها حتّى ولو كان الطقس في الخارج جافّا وحارّا. وهكذا، يتكاثرون ويتناسلون ويبنون تلّة بعد أخرى فيما بعد، وبينما كانت مصر القديمة تبني أهراماتها كانت أرضة (تيرميديا) تبني نصيبها التذكاري المبهر. ومنذ ذلك الحين اشتهرت مملكة الأرضة بروعة الهندسة والإعجاز الفيزيائيّ إلى يومنا هذا.

هذا، وقد عادت الحياة بهم مجدّدا. لا شيء يكدّرها: لا سيل ولا نمل (وما عرفوا خبرهم)، ولا طوفان ولا فقدان. وعاد (تيرا) إلى غرفته وإلى مائدته وإلى عمله المحبوب كما هي عادته. وكان يغنّي ذات ليلة:

بعيدا عبر التلال الباردة

أنهار هادئة وكهوف آمنة

علينا الذهاب قبيل الغروب

لنكشف سرّا ونعمّر أرضا

بعيدا عبر غابة (كافتا) النائية

أشجار كثيفة وفراشات مَرِحة

نفوس ترحل وتأتي جديدة

علينا الرحيل قبيل الليل…

استثقلت عيناه من النعاس، وبعد قليل استغرق في نومه العميق ليستقبل يوم الغد كنمل أبيض سعيد…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.