القصة الفائزة بالمركز الخامس في مسابقة كتابة القصة القصيرة التي نظمتها إندونيسيا اليوم
الكاتبة: فاتكة رزقي
مرّت خمسة أشهر منذ أن تركني أبي. ذهابه ترك ذكريات جميلة وأوقات لا تُنسى أبدا، خاصة بالنسبة لي. طوال غيابه، تغيّرت أمور كثيرة في حياتي.
ذات يوم منذ عام، قبل وفاة أبي….
“ننتقل؟ إلى أين؟” فوجئت عندما سمعت القرار من فمه، “نعم، فون. ربما فقط لفصل دراسي واحد. هل تريدين أن تذهبي معي إلى كاليمنتان؟”،
“كاليمنتان؟ لا! أنا هنا معتادة في جاكرتا، ولديّ الكثير من الأصدقاء هنا، وأنا متعبة من الانتقال المستمر، أنت تعلم يا أبي أنني مرتاحة هنا، لماذا يجب أن ننتقل مرة أخرى؟!” اعترضت.
تنهد أبي وأمال رأسه بتطلع: “فون، هذه هي المرة الأخيرة. بعد ذلك، لن ننتقل أبدا. أعدك.”
كان أبي صحفيا معروفا. حياته كانت مليئة بتوثيق القصص التي يجب أن يسمعها العالم. كان دائما يقول لي: “احمي الناس الضعفاء بطريقتك يا ابنتي. الكتابة هي الصوت لأولئك الذين لا يُسمعون.” تلك الكلمات لا تزال محفوظة في ذهني.
كانت أمي قد رحلت منذ فترة طويلة. منذ ثلاث سنوات ونصف، سلبتها السرطان من حياتنا. عانت فقط لمدة ثلاثة أشهر في المستشفى. وبعد رحيلها، فقد أبي شغفه بالحياة، وكان غارقا في الحزن لمدة خمسة أشهر. لكننا كنا نحتاج للبقاء معا، لأننا كنا نحن الاثنين فقط. كنت الأمل والرفيقة لأبي، وكان هو كذلك بالنسبة لي.
“إذا، دعني أفكر حتى الغد، يا أبي”، قلت بهدوء. أومأ أبي رأسه ببطء. توجهت بسرعة إلى غرفتي، وجلست على طاولتي وفتحت دفتر ملاحظاتي. كان يجب عليّ أن أكتب أهداف دراستي، لكن عقلي كان يسرح في هذا القرار الكبير. كنت أعلم أنني مهما ذهبت مع أبي، أردت أن أكون بجانبه. “من أجل أبي”، همست قبل أن أغفو.
وصلنا إلى كاليمنتان، واستقرينا في منزل صغير على حافة الغابة. وفي محيط المنزل، وجدت زهرة برية بيضاء كانت جميلة للغاية. قطفتها وأحضرتها إلى المنزل: “ما هذه الزهور يا أبي؟”
ابتسم أبي وقال: “هذه زهور الجلاديول، فون. رمز الثبات والشجاعة. تماما مثلك.”
لم تكن أيامنا في كاليمنتان سهلة. كان أبي يستيقظ قبل شروق الشمس، ويأخذ كاميراته وأدوات التسجيل لتوثيق الغابة التي تتناقص قليلا فقليلا. كنت أتبع خطواته كثيرا، وأشاهد بعيني كيف أن القطع الجائر للأشجار كان يهدد حياة الناس في المنطقة.
في أحد الأيام، قابلنا السيد رودي، الفلاح الذي عاش في قرية سوكا أبادي لسنوات عديدة. “كيف حالك يا سيد رودي؟” حيّاه أبي بلطف.
“آه، سيد فهد! لقد مضى وقت طويل. هل مازلت تكافح من أجل هذه الغابة؟” سأل السيد رودي.
أومأ أبي: “أريد أن أبلغ العالم عما يحدث هنا. نحن بحاجة إلى دعم أكبر.”
تنهد السيد رودي وقال: “نحن في هذه القرية ندعمكم، لكن أولئك الجشعين أقوى. انظر، الأطفال في المدرسة بدؤوا يقلّون لأن آباءهم اضطروا للانتقال.”
نظرت إلى المدرسة البسيطة. كان بعض الأطفال يدرسون فيها، ولكن جدرانها مليئة بالثقوب وسقفها مثقوب. “بسبب اختفاء غاباتهم، فقدت هذه القرية مصدر رزقها. الكثيرون اضطروا للرحيل، والمدارس فقدت طلابها. إذا استمر الوضع هكذا، لن يكون لهم مستقبل، فون.”
عضضت شفتي. “يمكننا مساعدتهم، أليس كذلك يا أبي؟”
ابتسم أبي وقال: “يمكننا أن نخبر العالم عن ذلك.”
قابلنا السيد أمانت، رئيس القرية الذي كان يقاوم القطع الجائر للأشجار. “لقد قمنا بالاحتجاج، سيد فهد. لكنهم لا يهتمون. حتى أنهم هددونا إذا استمررنا في الحديث.”
في زاوية القرية، قابلت ستي، فتاة صغيرة تحلم أن تصبح معلمة. “أريد أن تظل المدرسة موجودة. ولكن إذا رحل الجميع، فمن سأعلمهم؟” قالت ذلك ببراءة.
مع مرور الوقت في هذه القرية، بدأت أفهم لماذا كان أبي يقاتل بهذا الشكل. كان صوت مناشير الآلات يملأ الأجواء يوميا. وكانت الشاحنات الكبيرة تحمل الأخشاب التي جنت بطريقة غير قانونية من الغابة. أصبح الهواء أكثر حرارة، والأراضي جافة، والأنهار بدأت تجف. رأيت بعينيّ كيف يمكن لجشع الإنسان أن يدمر الطبيعة.
لكن جهود أبي وأهل القرية لم تذهب بعد. أصبح الفيلم الوثائقي الذي صنعه أبي عن القطع الجائر في سوكا أبادي ينتشر بسرعة. بدأت وسائل الإعلام الكبرى تتناول القضية، وضغط الرأي العام أجبر الحكومة على التدخل. تم تنفيذ عملية واسعة النطاق، وتم القبض على الجناة. بدأت القرية تحصل على الاهتمام، ووصلت المساعدات لإعادة بناء المدارس التي كانت على وشك الانهيار.
ولكن عندما بدأت نكهة الانتصار، سقط أبي فجأة مريضا. في إحدى الليالي، اشتكى من ضيق في صدره ثم سقط على الأرض. أصبت بالذعر، وأخذته بسرعة إلى المستشفى. لكن القدر كان له رأي آخر. توفي أبي بسبب نوبة قلبية.
شعرت وكأن العالم انهار من حولي. فقدت الشخص الوحيد الذي أحببته. لكن جهاده لم يذهب سدى. بفضل جهوده، تم وقف القطع الجائر للأشجار في قرية سوكا أبادي. تم محاكمة الجناة، وبدأت المدارس في القرية تبنى مجددا. يمكن للأطفال أن يتعلموا دون أن يخافوا من فقدان منزلهم.
بعد دفن أبي، قررت أن أبقى في هذه القرية. واصلت كفاحه، كتبت عن القضايا البيئية، وساعدت المدارس التي كانت في طور النمو، ودرّست الأطفال عن أهمية الحفاظ على الطبيعة.
في ساحة المنزل الصغير الذي أعيش فيه الآن بمفردي، بدأت زهور الجلاديول البيضاء تتفتح مرة أخرى. قطفت واحدة منها ونظرت إليها بعينين مغرورين: “يا أبي، هذه الزهرة الأخيرة من أجلك. جهادك لم يذهب سدى، وسأواصل هذا الطريق.”
كان سماء المساء الخافت يلفّ قلبي بالسلام. كنت أعلم أن أبي لم يذهب حقا. هو يعيش في كل كلمة أكتبها، وفي كل جهد أواصل بذله. الآن فهمت معنى كلماته سابقا: “الكتابة هي الصوت لأولئك الذين لا يسمعون.”ووعدت بأنني لن أتوقف عن الكتابة.
الآن، أصبحت صحفية. واصلت جهاد أبي وأمي، ورفعت أصواتهم التي لا يسمعها أحد، وخلدت القصص التي يجب أن يسمعها العالم. بالقلم والكاميرا، سأستمر في هذه الحياة، لأنها أعظم إرث تركاه لي. ليس فقط في بلدي، بل بدأت أيضا في توثيق قصص النضال في دول أخرى. من غابات الأمازون التي تتعرض للتهديد، إلى حياة الناس الذين يناضلون في البلدان النامية. كل رحلة، وكل خطوة هي جزء من مهمة سامية وضعها أبي وأمي لي. وعدت أنه لن يفوتني شيء، لأن العالم يحتاج إلى أصواتنا.
وفي كل هذه الرحلات، لم أعد وحيدة. مع مرور الوقت، التقيت بأردي، صحفي مليء بالحماس، الذي يشارك رؤيتي وهدفي. يدعم بعضنا البعض، ويقوي بعضنا بعضا في كل خطوة. في النهاية، تزوجنا، ومع أمل كبير لمواصلة نضالنا، سواء في العمل أو في حياتنا الخاصة. الآن، لم نواصل فقط ما بدأه أبي وأمي، بل بنينا أيضا عائلة تدعم الحفاظ على العالم والأصوات التي يجب أن تُسمع.